الجولاني ينضم لرافضي تسوية سورية- تركية

الجولاني ينضم لرافضي تسوية سورية- تركية

أصدرت إحدى الجمعيات العاملة في الشمال الغربي السوري، وتحمل اسم «منسقو استجابة سورية» منذ بضعة أشهر تقريراً قالت فيه: إنّ 84% من سكان الشمال الغربي السوري هم تحت خط الفقر، وأنّ 34% منهم هم تحت خط الجوع، أو ما يسمى حد الفقر الأدنى، ولا نعلم أين وصلت الأرقام اليوم، ولكنها بالتأكيد أشد سوءاً مما كانت عليه وقت صدور التقرير في أيار الماضي.

استندت الجمعية إلى سلة استهلاك لعائلة من أربعة أفراد، ضمّنتها مجموعة من السلع الأكثر أساسية، وأجرت حساباتها بالليرة التركية السائدة في التعاملات في الشمال الغربي السوري. ورغم أنّ النتيجة النهائية التي تقدمها الجمعية، فيما نعتقد، ملطّفةٌ إلى حد ما (انطلاقاً من تعداد أفراد الأسرة الذي لا يعكس الوسطي الحقيقي، ومن سلة الاستهلاك التي اقتصرت عملياً على الحاجات الأكثر أساسية)، إلا أنّها تبقى قريبة من واقع الحال، وربما بين النتائج الواضحة لها، أنّ الشعب السوري في كل مناطق النفوذ المختلفة، يعيش المأساة نفسها، وإنْ اختلفت الدرجة بشكل طفيفٍ من مكان لآخر.
في ظل هذا الوضع الكارثي، ومع الاشتداد التدريجي للبرد، قام زعيم تنظيم النصرة الإرهابي بجولة ميدانية على المخيمات، على طريقة المسؤولين الرسميين، مطلقاً حملة أسماها «دفء الشتاء».
نشاطات الجولاني هذه، لا تخرج عن السياق الذي عالجته قاسيون في عدد كبير من المواد فيما مضى، والتي تتمحور حول محاولات «سورنة النصرة» ومحاولات رفع الصفة الإرهابية عنها، والتي تجري بدعمٍ واضحٍ من الولايات المتحدة، التي كشف سياساتها بهذا الخصوص بأوضح ما يمكن، جيمس جيفري مبعوثها السابق إلى سورية، حين قال: إنّ تنسيقاً قد جرى مع النصرة، وحين قال: إنها تزعم أنها ليست إرهابية، وأنه لا يرى أنها تهدد المصالح الأمريكية، وأنها تسعى لتعريف نفسها كمعارضة وطنية...

وإذا كان هدف «سورنة النصرة» هدفاً واضحاً، ويمكن أن يفسر جولة الجولاني الأخيرة، فإنه يفسرها جزئياً، وفي إطار التراكم الذي يسعى لتحقيقه ضمن مهمة طويلة الأمد، لكنّ التصريحات التي أطلقها خلال جولته تكشف عن الهدف العاجل والراهن؛ يقول الجولاني: «لا مصالحة مع العدو، ولو بعد حين، وسنواصل هدم منظومة عصابات الأسد حتى تحرير كامل سورية وبناء مستقبلٍ يليق بأهل الشَّام».
لا تحتاج هذه التصريحات إلى جهدٍ كبير لفهم مغزاها؛ فهي تأتي رداً مباشراً على التصريحات التركية عن احتمالات «مصالحة» بين أنقرة ودمشق، والتي وضعتها أستانا فيما يبدو على رأس جدول أعمالها ابتداءً من قمة طهران الأخيرة.

تقاطعات

قبل أيّ بحثٍ في مقاصد الجولاني ومن وراءه من التلويح بصدامٍ حتى مع تركيا، في حال السير بموضوع تسوية سورية تركية، لا يمكن للمرء أنْ يتغافل عن التقاطع المثير للانتباه الرافض لهكذا تسوية، والذي يشمل قوىً وأطرافاً تبدو متناقضة كلّ التناقض ضمن الصراع السوري.
فإضافةً إلى موقف الجولاني الرافض للتسوية، هنالك مواقف متشددي المعارضة، الذين لاذ قسمٌ منهم (خاصة من المقيمين في تركيا) بالصمت، بينما يعبرون بكل شكل ممكن عن رفضهم هذا الخيار، كلما أتيحت لهم فرصة القيام بذلك، دون اصطدام حادٍ مع الأتراك.
كذلك الأمر مع بعض المسؤولين ضمن قسد/ مسد، الذين عبّروا بشكل متكرر عن رفضهم مثل هذا الاحتمال، بل وعبّروا عن تقديرهم لموقف المتشددين في النظام ممن يتصلبون ضد التسوية.
وبطبيعة الحال، هنالك هؤلاء الأخيرون من المتشددين في النظام، الذين يعبّرون بأشكال رسمية وغير رسمية عن رفضهم الجهد الروسي- الإيراني في هذا الإطار، بل ويعودون إلى محاولة اللعب على التناقضات عبر الإيحاء الذي لا أساس له، بأنّ السعودية ستدخل على الخط بالضد من هكذا احتمال.

تفسير هذا كلّه لم يعد أمراً صعباً، بل ولم يعد بعيد المنال عن الـ90% أو الـ84% أو أياً يكن الرقم الدقيق للسوريين الذين تحت خط الفقر؛ فالواضح أنّ تجار الحرب وتجار السياسة من المتشددين من كل الأطراف، يرون تسوية من هذا النوع تهديداً حيوياً لمصالحهم وأرباحهم، بل ولمشاريعهم المستقبلية ولأوزانهم المفترضة فيها.

عودة إلى الجولاني

مما لا شك فيه، أنّ أيّ تسوية سورية تركية لا بد أن تستند ليس فقط إلى الاتفاقات التاريخية بين البلدين، بل وأيضاً إلى الاتفاقات حديثة العهد لأستانا، وبينها اتفاق سوتشي، وضمناً خط M4 وعملية «عزل المتشددين عن المعتدلين»، والتي تعني ضمناً، أنّ أجَل النصرة سيكون قد حان، وأنّ إنهاءها تماماً سيكون على جدول التنفيذ الفوري.
لذلك لا يمكن لوم الجولاني على عمله ضد مصالحة أو تسوية سورية- تركية، فهو بذلك يدافع عن نفسه وعن تنظيمه دفاعاً وجودياً. ولا يعود مستغرباً في الوقت نفسه أنّ التصريحات الأمريكية الرسمية، وتصريحات «الخبراء» والمسؤولين الأمريكيين السابقين، ومقالاتهم، تصب كلها المصب نفسه المعادي لأي احتمال تسوية بين سورية وتركيا... فتسوية كهذه لا تعني فقط إنهاء ملف الإرهاب في الشمال الغربي السوري، و(ضمناً إنهاء أداة أمريكية أساسية هناك)، بل وأيضاً تعني وضع الأساس لإيجاد حلٍ فعلي لمسائل الشمال الشرقي، بما ينسجم مع الرسمة الكاملة للحل السياسي وفقاً للقرار 2254، أي بما يضمن حقوق الناس ووحدة البلاد، وهذا كلّه يعني انتفاء أي معنى وأي جدوى من استمرار وجود الأمريكي في سورية، وانتفاء قدرته على اللعب بسورية بوصفها ورقة من أوراق الصراع الدولي، وبوصفها «مستنقعاً» ليس للروس فحسب، بل ولكل الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة والمتأثرة بالشأن السوري.
ورغم أنّ الجولاني لا يقصد تقديم خدمة لأنصار الحل السياسي في سورية عبر تصريحاته الأخيرة، بل يقصد عكس ذلك تماماً، إلا أنّ تصريحاته بكل الأحوال تفيد اتجاه الحل، لأنّها تكشف طبيعة التقاطع العميق بين مصالح أعداء الحل من الأطراف السورية فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين الغرب على العموم والولايات المتحدة الأمريكية على الخصوص... وهذا مفيد على الأقل من وجهة نظر التراكم الضروري في الوعي العام، سواء على مستوى الحركة الشعبية السورية التي تلثم جراحها وتستعد لجولات جديدة، أو على مستوى الدول المتدخلة التي يشتبه عليها الأمر من حين لآخر، وخاصة بما يتعلق بمدى صدقية معارضة المعارضة، التي تسعى لدفعها للصفوف الأمامية...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1101