في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 9- (التضخم!)

في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 9- (التضخم!)

هنا الحلقة التاسعة، ويمكن الرجوع عبر الروابط للحلقات السابقة: الأولى (1- العقوبات وسعر الصرف)، الثانية (2- إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا)، الثالثة (3-خلية الرأسمالية الأولى)، الرابعة (4- خطوة أخيرة قبل ظهور النقد)، الخامسة (5-أنتم ملح الأرض!)، السادسة (6- العملة رمزاً للقيمة!)، السابعة (7- رأس المال!)، الثامنة (8- الربح!)

وصلنا في الحلقة الماضية إلى الحديث عن قانون الربح البسيط الذي يتمحور حول القيمة الزائدة، حول العمل الزائد المجاني الذي يقدمه العامل لرب العمل. ومن ثم مررنا على آليات زيادة الربح الأساسية: عبر زيادة طول يوم العمل وكثافة العمل، وعبر زيادة القيمة الزائدة النسبية، (بشكل عام عبر تطوير الإنتاج)، ومن ثم عبر البطالة التي تخفض أجر العامل إلى مستويات أقل بشكل دائم من قيمة قوة عمله، وأخيراً الاحتكار الذي يعمل على التحكم بآليات العرض والطلب في السوق بما يجعل أسعار البضائع بشكل دائم أعلى من قيمتها...

مررنا ضمناً على قانون العرض والطلب وكيف يؤثر على العلاقة بين السعر والقيمة. وفي هذه الحلقة سنحاول فهم تأثير قانون العرض والطلب نفسه على العملة ضمن نطاق محلي (ضمن نطاق دولة واحدة مثلاً)، لننتقل لعرض قانون الكتلة النقدية في التداول، وضمناً (التضخم والانكماش)، ومن ثم ننتقل إلى النطاق الأوسع للتبادلات بين الدول (حيث يدخل مفهوم سعر الصرف). ومنه سنستعرض التطور التاريخي الحديث ابتداء من معيار الذهب والفضة، وصولاً إلى بريتين وودز ومن ثم البترودلار وصولاً إلى (الغاز روبل)...
(الهدف النهائي لهذه السلسلة هو أن يتمكن القارئ من تكوين رأيٍ مستنير مما يجري هذه الأيام من تحولات كبرى على الساحة العالمية بما يخص البترودولار والدولار نفسه، وضمناً مسألة (الغاز بالروبل) بوصفها نقطة علامٍ في الانتقال نحو مرحلة جديدة، ليس بالنسبة لروسيا وحدها، بل وللعالم بأسره...)
وإذاً فلنتابع...

الكتلة النقدية الضرورية في التداول

لنفترض بدايةً أن لدينا مجتمعاً صغيراً تتم ضمنه عمليات الإنتاج والتداول والتبادل والاستهلاك، دون أية علاقة مع المجتمعات الأخرى حوله (وهذا الافتراض بالمعنى التاريخي ليس غريباً تماماً؛ فعمليات التبادل الخارجي بقيت عرضية وغير منتظمة لفترة طويلة جداً من تاريخ البشرية، وبكل الأحوال غرض الافتراض هو أن نحاول فهم العمليات الاقتصادية ضمن مجال مغلق تمهيداً لفهمها في المجال الدولي).
ولنحاول أن نحسب الكتلة النقدية الإجمالية اللازمة لعمليات التبادل ضمن هذا المجتمع.
الافتراض البديهي الأول هو أن تكون كتلة النقد مساوية لكتلة البضائع في هذا المجتمع، ولكنه افتراض خاطئ لأنّ أبسط أمثلة التبادل يمكن أن توضح خطأه:
فلنفترض للتبسيط أن كتلة البضائع الإجمالية في هذا المجتمع هي عبارة عن (10 كغ بطاطا، 100 رغيف خبز، 30 ليتر حليب، 10 سترات، 10 أحذية)، وأن لهذا المجتمع عملته المحلية واسمها الليرة مثلاً، وأنّ سعر هذه البضائع هو على الشكل التالي:
1 كغ بطاطا = 5 ليرات
1 رغيف خبز = 2 ليرة
1 ليتر حليب = 25 ليرة
1 سترة = 100 ليرة
1 حذاء = 150 ليرة
إذا حسبنا مجموع أسعار البضائع التي ضمن هذا المجتمع، فإنه سيبلغ 3500 ليرة... فهل يحتاج هذا المجتمع إلى هذا المقدار نفسه من العملة لكي يخدم عمليات التبادل المختلفة التي يقوم بها بين هذه البضائع؟
للإجابة، فلنحاول تصور جزء بسيط من عمليات التبادل الجارية ضمن هذا المجتمع: فلنفترض أن صاحب الأحذية قد باع حذاءً واحداً بمبلغ 150 ليرة، وبهذا المبلغ نفسه اشترى جملة من البضائع التي يحتاجها، وهي بالشكل التالي: «1 سترة (100 ل)، 1 ليتراً حليباً (25 ل)، 3 كغ بطاطا (15 ل)، 5 أرغفة خبزاً (10 ل)».
إذا أراد صاحب السترات أن يشتري هو الآخر بضائع يحتاجها، وهو قد حصل مسبقاً على 100 ليرة لأنه باع إحدى السترات لديه لصاحب الأحذية، فإنّه يستطيع استخدام هذه المئة نفسها في شراء احتياجاته أو جزء منها. ما يعني أنه يمكن أن يستخدم المئة ليرة نفسها التي كانت مع صاحب الأحذية لشراء بضائع أخرى بقيمة 100 ليرة.
الاستنتاج الواضح هو أنّ كتلة النقد الضرورية في التداول، هي بالتأكيد أقل من كتلة البضائع، لأنه يمكن للواحدة النقدية أن تخدم عدة عمليات تبادل، ولكن كيف يمكن أن نحدد بالضبط ما هي الكتلة النقدية الضرورية؟
يحل ماركس لنا هذه المسألة وفق معادلة هي التالية:
كتلة النقد الضرورية = كتلة البضائع/ سرعة الدوران
والمقصود بسرعة الدوران، هي سرعة عمليات التبادل، فكلما كانت السرعة أعلى سنحتاج إلى كميات نقد أقل. وسرعة الدوران هي دائماً أكبر من 1 ووسطياً قد تصل إلى 5 (ومع عمليات المضاربة ودور البورصة ضمنها يمكن أن تتجاوز ذلك).

1071-33

التضخم والانكماش

إذا كان القانون السابق يحدد ما هي الكتلة النقدية الضرورية ضمن اقتصاد ما، فإنّه يحدد بالطريقة نفسها كمّ الطلب الإجمالي على هذه العملة. ووفقاً لقانون العرض والطلب الذي مررنا عليه في الحلقة السابقة، فإننا سنكون أمام ثلاثة احتمالات لوضع العملة:

الأول: التضخم

المعروض النقدي أكبر من الكتلة الضرورية، وبالتالي فإنّ سعر العملة سينخفض عن القيمة التي يمثلها اسمياً، وبالتالي إنّ كماً أكبر من النقود سيمثل الكم نفسه من البضائع. وأول انعكاس واضح لهذه العملية هو ارتفاع الأسعار، أي إنّ البضائع نفسها يتم تمثيلها بكم أكبر من النقود.

الثاني: التوازن

المعروض النقدي يساوي تماماً الكتلة الضرورية، وبهذه الحالة تكون أسعار البضائع ثابتة (إذا بقيت الشروط الأخرى جميعها ثابتة).

الثالث: الانكماش

المعروض النقدي أقل من الكتلة الضرورية، وبالتالي فإنّ كم البضائع نفسه يجري التعبير عنه بكم أقل من النقد، وبالتالي فإنّ كل وحدة نقدية ستعبر عن كم أكبر من البضائع. وانعكاس هذه العملية هو انخفاض الأسعار.

1071-16

التضخم كأداة أساسية في النهب

يسمح هذا الفهم المبسط للأمور بوضع أول أساسات فهم عملية النهب الدولاري وعمليات التبادل اللامتكافئ...
مع تأسيس البنوك المركزية، والذي يؤرخ له في القرن السابع عشر، فإنّ إحدى أهم الوظائف التي تولتها تلك البنوك مع الزمن هي احتكار إصدار العملة الوطنية للدولة المعنية، أي إنّ تلك البنوك تتحكم عملياً بكتلة النقد في التداول.
إذا نظرنا في الإحصاءات المتعلقة بأية عملة من العملات على وجه الأرض، وبالاستعانة بكل البيانات المتوفرة، وصولاً إلى 100 عامٍ مضت وحتى إلى 150 عاماً في بعض الحالات، فإننا سنجد أنّ كل العملات على الإطلاق، وفي المدى التاريخي الطويل، لها اتجاه ثابت هو التضخم والمزيد من التضخم.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ عملية إصدار العملية هي عملية محتكرة بأيد محددة يمكنها أن تدفع نحو التضخم أو الانكماش، فإنّ الاستنتاج الواضح هو أنّ هنالك قانونية لهذه العملية، وأنّ الممسكين بعملية إصدار العملة في كل مكان في العالم يدفعونها باتجاه واحد دائماً هو التضخم.
وبما أنّ كل القرارات الاقتصادية، هي في نهاية المطاف قرارات اجتماعية وسياسية، تخدم طبقات معينة على حساب طبقات أخرى، فإنّ التضخم أيضاً، وعمليات التحكم بالمعروض النقدي، هي الأخرى تخدم وبشكل مباشر طبقات وفئات معينة... وكيف ذلك؟
ببساطة، فإنّ ارتفاع الأجور يكون دائماً أبطأ من ارتفاع الأسعار (أي من سرعة التضخم). وهذه العملية يجري من خلالها وعلى أساس سنوي، اقتطاع حصة من الأجور لمصلحة أصحاب الأرباح...
بكلام آخر، فإنّ التضخم هو إحدى أدوات إعادة توزيع الدخل الثانوي من جيوب أصحاب الأجور إلى جيوب أصحاب الأرباح.
وربما من المفيد أن نستذكر هنا ما قلناه في الحلقة الماضية حول البطالة، لأن جوهر المسألة هو هو:
فما تسميه الأدبيات الرأسمالية بـ «البطالة الضرورية»، هي إحدى آليات تخفيض أجور العمال؛ فكما قلنا، حين يكون عرض قوة العمل أكبر من الطلب عليها، فإنها ستخضع كغيرها من البضائع لقانون العرض والطلب، وسينخفض بالتالي سعرها (أي الأجر) عن قيمتها (قيمة قوة العمل)... وهذا الانخفاض سيتحول إلى ربح إضافي يقتطعه الرأسمالي ويضيفه إلى القيمة الزائدة.
كذلك الأمر مع التضخم؛ فكلما زاد التضخم، فإنّ الأجر نفسه الذي يتلقاه العامل، سيشتري له بضائع أقل، أي إن قيمة ذلك الأجر الحقيقية ستنخفض حتى لو بقي المبلغ الاسمي الذي يتقاضاه هو نفسه، بل وحتى لو ارتفع ذلك المبلغ الاسمي بنسب أقل من نسب التضخم.
ومن الطبيعي أن الحركات العمالية والأحزاب السياسية التي تدافع عن مصالح أصحاب الأجر، تدرك تلك الحقيقة بشكل كامل، وتسعى بالتالي إلى فرض ربط معين بين التضخم وبين الأجور... كالقول مثلاً إنه ينبغي أن تتم زيادة الأجور بشكل دوري على الأقل بنفس مقدار زيادة التضخم.
المشكلة الإضافية التي تظهر هنا هي في كيفية حساب التضخم؛ إذ إنّ الطريقة الأساسية لحسابه هي عبر أخذ سلة سلع محددة ومراقبة سعر تلك السلة بين فترتين زمنيتين، مثلاً 3 أشهر، والقول إنّ نسبة التضخم هي ذاتها النسبة الإجمالية لارتفاع أسعار تلك السلة... ويبدأ التلاعب من طريقة اختيار تلك السلة وتناسباتها بما يسمح لأصحاب السلطة المالية والاقتصادية، بإخفاء الحجم الفعلي للتضخم وتصغيره قدر الإمكان... وكقاعدة عامة، وحين نقرأ الأرقام التي تقدمها الحكومات على أنها أرقام التضخم فينبغي أن نعلم دائماً أنّ التضخم الحقيقي أكبر من تلك الأرقام...
على الهامش، فإنّ التلاعب المستمر بطريقة حساب التضخم، تجعل من شعار «ربط الأجور بمستوى التضخم» شعاراً مشبوهاً واحتيالياً هو الآخر؛ والشعار الحقيقي في هذه الحالة (وفي إطار النضال بمستواه النقابي) ينبغي يكون «ربط الأجور بالأسعار وبشكل دوري»، كل 3 أشهر كحد أقصى.
هنالك طريقة أخرى أكثر دهاءً في حساب التضخم، تعتمد على حسابات الناتج المحلي الإجمالي، وحسابات الموازنة الحكومية، وهذه يمكن توصيفها بأنها عمليات احتيال ونصب شبه علني... فعلى الأقل بما يخص طريقة حساب الناتج المحلي الإجمالي، فإنّ هنالك لعبة تقليدية هي (تكرار الحساب)، أي افتراض أنّ العمليات المالية والخدمات هي أيضاً إنتاج لبضائع جديدة، مع أنها بقسمها الأكبر تكرار لحسابات الإنتاج الحقيقي (الموجود في الصناعة والزراعة والبناء والتجارة الداخلية والنقل المنتج). الحساب بهذه الطريقة الاحتيالية، يسمح بإصدار كميات ضخمة إضافية من العملية بشكل سنوي، ويسمح تالياً بمزيد ومزيد من ارتفاعات الأسعار (من التضخم)، وهو الأمر الذي لا يمكن إخفاؤه بأي شكل من الأشكال.
ولكن ينبغي أن ننتبه إلى سياق تاريخي أساسي في تطور ظاهرة التضخم، وهو طريقة إصدار العملة المعنية: هل هي مربوطة بشيء مادي محدد (الذهب أو الفضة أو كليهما مثلاً) أم أنها متحررة من أي قيد؟
في الحالة الأولى، تبقى إمكانيات التوحش في عملية التضخم محدودة موضوعياً بالإمكانية النظرية لحامل النقد أن يذهب إلى البنك لاستبداله بالذهب أو الفضة... (ولكن حتى بوجود هذه الإمكانية النظرية، فإن هنالك أدوات راسخة في الاحتيال عليها، أهمها هي الفائدة البنكية...)
في الحالة الثانية، إنّ إمكانيات النهب الوحشي عبر التضخم تصبح بلا قيود تقريباً... «مع أنّ هنالك قيداً نظرياً وعملياً هو استمرار قدرة قوة العمل على إنتاج الثروات... ولكن حتى هذه تجاوزها ويتجاوزها رأس المال، بل وينظّر إلى كيفية تجاوزها عبر ضرب قوى الإنتاج نفسها بشقيها المادي والبشري عبر الحروب ومختلف أنواع الكوارث... وتحديداً عبر النيومالتوسية والنسخة الجديدة منها (إعادة الإقلاع العظيم- Great reset)».

في الحلقة القادمة

إذا تركنا مؤقتاً الحديث عن التضخم وعدنا إلى مسار تطور العملات، فإننا سنقف عند أربع مراحل كبرى أساسية:
1- ما قبل بريتين وودز
2- بريتين وودز
3- البترودولار
4- غاز-روبل (كبداية لمرحلة جديدة)
وهذه المراحل هي ما سنقف عندها في الحلقة القادمة من هذه السلسلة، والتي ستكون الحلقة الأخيرة منها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1071
آخر تعديل على الإثنين, 23 أيار 2022 11:53