في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل»  6- (العملة رمزاً للقيمة!)

في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 6- (العملة رمزاً للقيمة!)

 هنا الحلقة السادسة، ويمكن الرجوع عبر الروابط للحلقات السابقة: الأولى (1- العقوبات وسعر الصرف)، الثانية (2- إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا)، الثالثة (3-خلية الرأسمالية الأولى)، الرابعة (4- خطوة أخيرة قبل ظهور النقد)، الخامسة (5-أنتم ملح الأرض!).

وصلنا في الحلقة الماضية إلى ظهور النقد ووظائفه. في هذه الحلقة سنختصر مرحلة تاريخية طويلة للحديث باختصارٍ عن النقد وتطوراته، وعن ظهور العملة الورقية، ثم نعود لمتابعة السياق السابق عبر شرح الشكل الرابع من التبادل وظهور رأس المال.

(الهدف النهائي لهذه السلسلة هو أن يتمكن القارئ من تكوين رأيٍ مستنير مما يجري هذه الأيام من تحولات كبرى على الساحة العالمية بما يخص البترودلار والدولار نفسه، وضمناً مسألة (الغاز بالروبل) بوصفها نقطة علامٍ في الانتقال نحو مرحلة جديدة، ليس بالنسبة لروسيا وحدها، بل وللعالم بأسره...)

وإذاً، فلنتابع...

النقود المعدنية

كنا قد أشرنا إلى أربع سمات ينبغي للبضاعة المميزة - البضاعة النقدية، أن تتحلى بها كي تتمكن من لعب دور النقد، وهي باختصار: (1- موثوقة من الجميع، 2- تختزن كمية عمل بشري كبيرة نسبياً، 3- قابلة للقياس والتقسيم لوحدات صغيرة، 4- يمكنها الصمود اتجاه عامل الزمن). وكنا قد أشرنا إلى أنّ الملح وغيره من البضائع المميزة تمكنت من لعب هذا الدور وتحقيق هذه السمات في مراحل تاريخية سابقة. ولكن مع التطور، جرت عدة تغيرات أساسية؛ فمن جهة، ازداد كم الإنتاج البشري بشكل كبير، ولم تعد كمية العمل المختزنة ضمن الملح كافية لوحدها للتعبير عن تلك الكميات، أي بات مطلوباً البحث عن نوع جديد من البضائع النقدية التي تستطيع اختزان كميات أكبر من العمل البشري ضمن حجم أصغر، أي أن تكون قيمتها أكبر. من جهة ثانية، ولأن الفوائض أصبحت أكبر وزادت الحاجة إلى اكتنازها/تخزينها لفترة أطول، فقد أظهر الملح أنه غير قادر على أداء هذه المهمة لفترة طويلة، فأي رطوبة تطال الملح يمكنها أن تفسده... «وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟»...

لهذا السبب، ولأسباب عديدة أخرى منها تطور سباكة المعادن، بدأت النقود المعدنية بأطوارها المتلاحقة بالظهور: (برونز، فضة، ذهب).

النقلة التاريخية المهمة التي حصلت مع صك العملات المعدنية، هو أنّ هذه العملات أصبحت تلعب بشكل كاملٍ تقريباً دور النقد؛ أي أنّها لم تعد بضاعة بالمعنى التقليدي؛ وللربط بما سبق، يمكن صياغة الأمر بالشكل التالي: أصبحت القيمة الاستعمالية الوحيدة تقريباً للعملات النقدية هي منفعتها كنقد: كمعيار قيم، كوسيط تبادل، كوسيلة دفع، كوسيلة اكتناز. أي لم تعد قيمتها الاستعمالية هي فائدتها كمعدن يمكن أن يستخدم في صناعة السيوف مثلاً أو في أي نوع من أنواع الصناعات التي يمكن أن تقوم على المعادن... وبكلمة: أصبحت قيمتها الاستعمالية هي كونها معبراً عن القيم- عن كميات العمل البشري الضروري اجتماعياً- المختزنة في مختلف أنواع البضائع التي يجري تبادلها.

العملات الورقية- الشكل الجنيني

يمكن القول إنّ الشكل الجنيني الذي سمح بظهور العملة الورقية، كان هو الصكوك القانونية للديون أو استحقاقات الدفع... كيف ذلك؟

فلنقل إنّ هنالك تاجرين: الأول هو (أ) والثاني هو (ب). قام (أ) بإقراض (ب) مبلغاً قدره 10 قطع ذهبية (وزن الواحدة منها هو 3 غ مثلاً- وللتبسيط فلنفترض أنّ الإقراض جرى دون فائدة). ولكي يضمن حقه طلب من (ب) أن يكتب صكاً قانونياً يعترف فيه بأنه اقترض هذا المبلغ من (أ).

يمكن لـ(أ) أن يستخدم هذا الصك نفسه، أي هذه الورقة القانونية، لكي يشتري فيها بضائع بقيمة 10 قطع ذهبية، سواء من ب أو من أي تاجر آخر باعتبار هذا الصك موثوقاً وموثقاً قانونياً.

نذكر هذا المثال فقط للإشارة إلى أنّ أحد الجذور التاريخية الأساسية للعملة الورقية، هي أنها ورقة قانونية، عقد، صك دين إلخ، ترمز إلى القيمة، تعبر عن القيمة، ولكن هي نفسها ليست القيمة، ولكن يمكن استخدامها لأداء وظائف النقد ضمن شروط معينة.

الجذر الثاني المهم لنشوء العملات الورقية، هو المشكلات التي بدأت بالظهور في عملية تداول العملات المعدنية؛ إحدى أهم هذه المشكلات هي تآكل المعدن مع الوقت، ناهيك عن العمليات التي يوثقها التاريخ عن عمليات حت الذهب مثلاً من العملات النقدية الذهبية... (كان من الشائع أن يقوم بعض الصاغة بحت كميات بسيطة من العملات النقدية الذهبية أو الفضية، ويقومون بتجميع هذا الحتّ وإعادة صهره، ويقومون باستخدام العملات النقدية التي يحتّونَها في السوق بشكل اعتيادي دون أن تتم ملاحظتهم).

العملات الورقية - رمز القيمة

ظهر الحل مع نشوء البنوك المركزية، والتي ليس هنالك اتفاق كامل بين المؤرخين على أول ظهور لها، ولكن يرجح معظمهم أنّ أول بنك مركزي هو بنك نشأ في أمستردام عام 1609.

ببساطة، يكون الأمر كالتالي في البداية: يذهب حامل النقود المعدنية، فضة وذهب خاصة، ويودعها لدى البنك ويأخذ مقابلها صكاً يعترف فيه البنك لحامله بأنه يملك مقدار كذا من الذهب مخزناً لديه. ومن ثم يقوم صاحب هذا الصك باستخدامه في التبادلات، أي كنقد. ولكنه يمكن له دائماً أن يعود إلى البنك ويبرز الصك ويأخذ بدلاً عنه كمية الذهب المنصوص عليها فيه.

حين تجمعت كميات ذهب كافية في البنك المركزي، كانت هنالك مشكلة واضحة تحتاج إلى حل، تشبه إلى حد بعيد مشكلة صاحبنا في مثال الـ40 بيضة:

إذا كان شخص ما قد أودع 40 قطعة ذهبية في البنك وقام البنك بإعطائه ورقة واحدة، صكاً، وثيقة قانونية، بنكنوت banknote بأنه يملك هذه الكمية من النقد مختزنة في البنك. فإنّ مشكلة صاحبنا الآن أنه يريد شراء مختلف أنواع البضائع وبكميات مختلفة، ولا يمكنه فعل ذلك باستخدام ورقة واحدة بقيمة كبيرة هي 40 قطعة ذهبية... شكل الحل الأولي كان بأن يقوم البنك بإعطائه بدل الصك الواحد، أربعين صكاً كل صك بقيمة قطعة ذهبية واحدة...

بات ممكناً بعد هذا السرد تخيل ظهور العملة الورقية بشكلها الواسع بشكل أوضح وأسهل... بناء على كميات الذهب الموجودة لديه، يقوم البنك المركزي بطباعة عملة ورقية ترمز إلى قيمة ذهبية أو فضية معينة مختزنة لديه، وتنتشر هذه العملة في السوق وتكون موثوقة من الناس ويجري التبادل على أساسها، مع بقاء معادلة أساسية ثابتة طوال الوقت، وهي أنه يمكن لحامل العملة الورقية في أي وقت أن يذهب إلى البنك لتبديلها بما يكافئها من ذهب أو فضة.

ولكن كيف تمكنت البنوك المركزية، والبنوك على العموم، من تجميع الذهب؟ الجواب الأبسط: عبر الفائدة! الشكل الجنيني للبنوك، ليس إلا المقرض بالربا، الذي كان يقرض الناس مبالغ معينة على أن يعيدوها إليه مع زيادة هي الربا أو الفائدة... ومع الزمن تطورت هذه الوظيفة لتصبح «معكوسة»، فقد أصبح المرابي (صاحب البنك) هو من يقترض من الناس (أي يقوم الناس بإيداع ذهبهم وثرواتهم بين يدي صاحب البنك، مقابل إعطائهم فائدة سنوية عن تلك الثروات)...

لكي نفهم هذه العملية الحاسمة في التطور التاريخي، يجب أن نستكمل ما بدأناه في الحديث عن أشكال التبادل والتي شرحنا ثلاثة منها وبقي الرابع، والذي رمزنا له: ن1 - ب - ن2 (رأس المال)، أي نقد- بضاعة- نقد... والربا كما هو معلوم هو:  ن1 - ن2... نقد مقابل نقد أكثر منه... أي أنّ الشكلين مرتبطان ببعضهما ارتباطاً شديداً... هذا ما سنقف عنده في الحلقة القادمة...