في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل»  5- (أنتم ملح الأرض!)

في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 5- (أنتم ملح الأرض!)

هنا الحلقة الخامسة، ويمكن الرجوع عبر الروابط للحلقات السابقة: الأولى (1- العقوبات وسعر الصرف)، الثانية (2- إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا)، الثالثة (3-خلية الرأسمالية الأولى)، الرابعة (4- خطوة أخيرة قبل ظهور النقد). 

وصلنا في الحلقة الماضية إلى الحديث عن أربعة مراحل في تطور أشكال التبادل بين البشر، ومررنا على أول مرحلتين: ب1 - ب2 (مقايضة)، ثم ب1 - ب2 - ب3 (تطور المقايضة)، ونتابع الآن من حيث توقفنا للحديث عن ظهور النقد.

(الهدف النهائي لهذه السلسلة هو أن يتمكن القارئ من تكوين رأيٍ مستنير مما يجري هذه الأيام من تحولات كبرى على الساحة العالمية بما يخص البترودلار والدولار نفسه، وضمناً مسألة (الغاز بالروبل) بوصفها نقطة علامٍ في الانتقال نحو مرحلة جديدة، ليس بالنسبة لروسيا وحدها، بل وللعالم بأسره...)

وإذاً، فلنتابع...

ثالثاً: ب1 - ن - ب2 (البضاعة النقدية-النقد)

مع توسع المقايضة، وكما أشرنا في الحلقة الماضية، فقد بدأت جملة مشكلات تظهر أمام عمليات التبادل، وتعيقها وتعقّدها. وهذه المشكلات دفعت موضوعياً نحو ظهور الحل الذي نشأ بشكل عفوي وغير مخطط في المراحل الأولى.

لتبسيط الحل، دعونا نضع أنفسنا موضع صاحب الـ40 بيضة، ونفكر بعقله: مقابل الـ40 بيضة، أريد مجموعة من البضائع الأخرى المتنوعة التي تلبي احتياجاتي، وهي: (1 سترة، 1 ليتر من الحليب، ربع ليتر زيت زيتون، 3 رغيف خبز)، ولنفترض أنّ القيمة التبادلية لهذه البضائع مع البيض هي على الشكل التالي:

1 سترة = 20 بيضة

1 ليتر من الحليب = 5 بيضات

ربع ليتر زيت زيتون = 12 بيضة

3 رغيف خبز = 3 بيضات

من حيث المبدأ، فإنّ الـ40 بيضة التي يملكها صاحبنا تكافئ البضائع التي يحتاجها، لكن مشكلته الواضحة هي أنّ أصحاب السترة والحليب وزيت الزيتون والخبز، ربما لا يحتاجون في هذا اليوم للبيض، وربما يحتاجونه لكن ليس بالعدد نفسه، مثلاً ربما صاحب السترة لا يريد 20 بيضة ولكن فقط 5 بيضات، وهو لن يقبل بمنح السترة مقابل 5 بيضات فقط لأنّ قيمتها (أي عدد ساعات العمل الضروري اجتماعياً التي صرفها عليها) هي أكبر من 5 بيضات وهي بالضبط تكافئ العمل المبذول في إنتاج 20 بيضة... وإلخ... فإذاً المشكلة ليست لدى صاحبنا فقط، بل لدى الجميع... فما الحل؟

عليهم جميعاً التفكير بنوعٍ مميز من البضائع، يبدلون به البضائع التي يمتلكونها، ثم يستخدمونه لشراء البضائع التي يريدونها... هذا النوع المميز من البضائع ينبغي أن يتمتع بأربع صفات أساسية:

1- أن يكون موثوقاً من الجميع؛ أي أنّ الكل يعلم أنه إذا امتلكه وذهب به إلى الآخرين فسيقبلون به مقابل بضائعهم.

2- أن يختزن هذا النوع المميز من البضائع في جسده، في مادته، كمية عمل بشري كبيرة نسبياً، أي قيمة كبيرة نسبياً، بحيث يمكن أن يحمل منه الإنسان كماً غير كبير ويبدله بجملة من البضائع الأخرى.

3- أن يكون قابلاً للقياس وللتقسيم إلى وحدات صغيرة لتخديم عمليات التبادل المختلفة.

4- أن يكون أكثر صموداً من غيره من البضائع اتجاه عوامل الزمن، بحيث ينفع في عملية الاكتناز، أو تخزين الفائض، أو بالحد الأدنى يؤمن لحامله أن يستطيع تبديله بعد أيام أو أسابيع أو أشهر أو حتى سنوات بالبضائع التي يحتاجها.

تشير الدراسات الأنثروبولوجية، إلى أنه في مناطق مختلفة من العالم، وفي مراحل تاريخية متقاربة، ظهرت أنواع مختلفة من هذه البضائع المتميزة، ومنها مثلاً: الملح، أنواع معينة من الأصداف، أنواع معينة من الأحجار، أنواع معينة من ريش الطيور، وفي وقت متأخر من التاريخ، المعادن: الزنك، فالفضة، فالذهب.

البضاعة المتميزة هذه، هي ما يسميها ماركس البضاعة النقدية؛ أي أنها من حيث المبدأ بضاعة كغيرها من البضائع، يجري إنتاجها (أي لها قيمة= عدد ساعات عمل بشري)، وتنتج بغرض التبادل (أي لها قيمة تبادلية اتجاه البضائع الأخرى)، وتلبي حاجة بشرية، مادية أو روحية (أي لها قيمة استعمالية). ولكن إضافة إلى هذا كله، فإنها باتت تلعب دور الوسيط في عمليات التبادل، أي دور النقد.

الاستنتاج المهم الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال من هذه العودة التاريخية المطولة، هي أنّ النقد لم يكن قادراً على لعب دوره كنقد، كوسيط تبادل، إلا بعد استيفاء شرط أساسي، هو أن يكون هو بذاته بضاعة، أي أن يكون هو بذاته حاملاً للقيمة، أي مختزناً للعمل البشري.. ومن هنا بالذات تأتي موثوقيته التي تسمح له بلعب هذا الدور الهام... (يمكن أن نقفز نحو الحاضر لبرهة صغيرة لنسأل: كيف يمكن للعملات الورقية مثلاً أن تكون موثوقة وهي مجرد أوراق لا قيمة لها تقريباً؟ أي لا يكلف إنتاجها ساعات عملٍ بشري بقدر ما يمكنها أن تشتريه «مثلاً ورقة المئة دولار تكلف 4 سنت لإنتاجها، في حين تشتري بضائع بقيمة 100 دولار!»... هذا ما سنصل إلى تفسيره في مرحلة لاحقة من هذه السلسلة...).

النقد كمعادل عام/ كمقياس للقيم

سنعيد هنا طرح المثال السابق، لكن بعد أن تمكّن المشاركون فيه من استخدام الملح وسيطاً في تبادلاتهم. ولنفترض أنّ 40 بيضة = 1000 غ ملح. في هذه الحالة ستتحول المعادلات المعقدة المتبادلة بين البضائع المختلفة إلى الشكل البسيط التالي:

1 بيضة = 25 غ ملح

1 سترة = 500 غ ملح

1 ليتر زيت زيتون = 1200 غ ملح

1 رغيف خبز = 25 غ ملح

1 ليتر حليب = 125 غ ملح

ليس صعباً أن نلاحظ أنه ضمن هذا الشكل من معادلات التبادل، يكمن الشكل الجنيني للسعر؛ فإذا بدلنا (غ ملح) في المعادلات السابقة بإحدى الوحدات النقدية المستخدمة في عصرنا، مثلاً ليرة سورية، سنجد أنفسنا أمام مشهد مألوف بالنسبة لنا، أي أمام مشهد السعر... مع ذلك فإنّ الشكل الذي نتحدث عنه هنا باستخدام الملح هو شكل جنيني للسعر، لأنّ هنالك فوارق كبرى بينهما سنأتي عليها أولاً بأول.

ما يهمنا في هذه الدرجة من تتبع الخط التاريخي للتطور، هو أنّ الملح بات يلعب دورين معاً؛ فهو من جهة «قيمة استعمالية»، أي له منفعة محددة، ومن جهة ثانية فهو «قيمة» أي عدد ساعات عمل بشري ضروري اجتماعياً. ولكن ولأنه يقوم بخدمة جليلة لعمليات التبادل عبر تسهيلها وحل مشكلاتها المعقدة، فإنّ جانبه «القيمي»، أي وظيفته كوسيط في التبادل، كمعادل عام، يصبح مع الوقت الجانب الأكثر أهمية، إلى ذلك الحد الذي تصبح فيه قيمة الملح الاستعمالية الأساسية (أي منفعته)، غير متمثلة في كونه ملحاً يستخدم للطعام أو لحفظه وتقديده، بل أكثر من ذلك في كونه معادلاً عاماً يجري تبادل البضائع على أساسه.... وكلما ارتفعت أهمية الملح كمعادل عامٍ مقارنة بأهميته كملح، فإنه ينتقل أكثر فأكثر نحو أداء وظيفة النقد، أكثر من أدائه لوظيفة البضاعة... 

استراحة تاريخية مع الملح!

ذكرنا سابقاً أن رواتب الجنود الرومان في مرحلة من المراحل كانت تدفع بالملح، ونضيف هنا هامشين من بين عشرات الأمثلة المتاحة، لتبيان الأهمية التاريخية والثقافية التي لعبها الملح، وخاصة دوره كمعادل عام، كنقد... الأول هو أنّ كلمة salary الإنكليزية والتي تستخدم حتى اليوم بمعنى الراتب، مشتقة بالأصل من الكلمة اللاتينية sal وتعني ملح، ومعلوم أنه حتى بالإنكليزية الحديثة فإنّ الملح هو salt.

الثاني هو ما ورد في (إنجيل متى 5: 13) «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ». ومن المعلوم أنّ المرحلة الزمنية للمسيح هي ذاتها تقريباً التي كان الرومان يدفعون بها مرتبات جنودهم بالملح...

photo_--_--

وظائف النقد

للنقد أربعة وظائف، لا يكتسبها كلها دفعة واحدة، ولكنها على العموم كالتالي:

1- مقياس القيم: وهذه يمكن فهمها ببساطة عبر مثال الملح الذي بات يقدم وحدة قياس مشتركة لقيم مختلف أنواع البضائع الموجودة في التداول، (أي مقياس كمية العمل الضروري اجتماعياً المبذولة في إنتاج كل بضاعة من البضائع)

2- وسيلة التداول: وهذه أيضاً يمكن فهمها في إطار المثال السابق نفسه، فصاحب البيض في إطار سعيه للحصول على السترة، يمكنه أن يتجه إلى السوق، فيبدل 20 بيضة بـ500 غ ملح، ثم يبدل هذه الأخيرة بالسترة... وللتبسيط يمكننا التعبير عن هذه الوظيفة بالقول إنها وظيفة النقد كوسيط للتداول.

3- وسيلة الدفع: تعبّر هذه الوظيفة، بأبسط أشكالها، عن الجزء الثاني من عملية الحصول على السترة، أي قيام صاحب البيض، الذي هو في هذه الحالة صاحب 500 غ ملح (أي بعد أن باع الـ20 بيضة)، بدفع الملح مقابل السترة... ولكن كما سنبين لاحقاً فإنّ هذه الوظيفة ستطور مع التاريخ فاتحة المجال للنقد ليتحول إلى رأس مال.

4- وسيلة الاكتناز/الادخار: في المثال نفسه، يمكن لصاحب البيض أن يبيع إنتاجه اليومي لفترة من الزمن مقابل الملح دون أن يشتري به كله، وأن يخزن الملح الفائض، ويخزن ضمنه القيمة- الثروة، بحيث يستخدمها لاحقاً كوسيلة للدفع... (أو كرأس مال).

 

في الحلقات القادمة:

  • كيف يتحول النقد إلى رأس مال؟
  • قانون القيمة
  • النقد والعملة
  • القيمة والسعر
  • التضخم... كمية النقد في التداول؟
  • التبادلات الدولية ومعيار الذهب
  • بريتين وودز
  • البترودولار
  • غاز-روبل
آخر تعديل على الإثنين, 11 نيسان/أبريل 2022 19:17