في السويداء... ملامح أولى  لموجة جديدة من الحراك الشعبي

في السويداء... ملامح أولى لموجة جديدة من الحراك الشعبي

شهدت محافظة السويداء خلال الأسبوع الماضي عدة مظاهرات، تدرجت شعاراتها وهتافاتها بين المطلبي والسياسي، وتداخلت ضمنها شعارات قديمة، من تلك التي استخدمت خلال الأعوام 2011-2014، مع أخرى جديدة.

◘مهند دليقان

رغم أنّ حجم المشاركة ضمن هذه المظاهرات بقي محصوراً (حتى الآن) بالمئات عددياً، ورغم التباين الشديد في الآراء حولها، إلا أنّ ذلك لا ينبغي أن يدفع أحداً إلى التقليل من معانيها، كما لا ينبغي بكل تأكيد الانسياق وراء من دسوا أنوفهم عبر التطبيل والتزمير والتضخيم، وبشكل خاص المتشددون من الطرفين، والذين بانت هزيمة شعاراتهم السياسية.

المؤامرة مجدداً!

قبل الدخول في مناقشةٍ أولية لطبيعة الحركة وتنوعها وتعقيداتها والشعارات المتعددة فيها، لا بد من إعادة التأكيد على أنّ منطق المعالجة الذي ساد خلال السنوات الأولى من انطلاق الحراك الشعبي عام 2011، سواء من جهة النظام (المؤامرة ورفض الحوار والحل الأمني- العسكري) أو من الصنف من المعارضة الذي استجدى التدخل الخارجي وشجع التسلح ورفض الحوار والحل السياسي، كان منطقاً مدمراً وبعيداً عن الواقع، وهو اليوم أبعد عن الواقع بما لا يقاس.

الحديث عن «المؤامرة» و«الاندساس» بالشكل الذي اعتاد الإعلام الرسمي وشبه الرسمي على استخدامه، ليس أكثر من التفاف على الحقيقة التالية: الغضب والاحتقان المتراكم في صدور الناس لم يتوقف عن التراكم والتنامي. الغضب والاحتقان جراء السياسات الاقتصادية المتوحشة والمنحازة لما لا يزيد عن 10% من السوريين ضد مصلحة البقية، وكذلك السياسات الأمنية القمعية والإقصائية التي صبت دائماً وأبداً في مصلحة الناهبين وضد المنهوبين، وأكثر من ذلك الفشل الذريع لكل هذه الأنواع من السياسات وعدم وصولها إلى الأهداف المفترضة التي قالت بها. وإن كانت عوامل عديدة بينها القمع الداخلي والتدخلات الخارجية والإرهاب والتسلح وغيرها قد أخرجت الناس من الشارع مؤقتاً، لتحتله الصراعات المسلحة بأنواعها، فإنّ ذلك لا يعني نهائياً أن الحركة الشعبية قد ماتت أو اختفت، بل تراجعت مؤقتاً مغيرة أشكال عملها ومنتظرة الوقت المناسب لتعود بأشكال أكثر قوة وتنظيماً.

النشاط السياسي العالي للناس

الحركة الشعبية في جوهرها، هي النشاط السياسي العالي للناس، والذي يرتدي أشكالاً شديدة التنوع والغنى. وهذه الحركة هي أقرب ما تكون إلى «قَدرٍ موضوعي»، أي أنها محكومة بقوانين تاريخية، ولا يمكن توليدها عبر «التآمر الفوقي» أو عبر اجتهاد مجموعة من «النخب»، بل إن ظهورها في جوهره هو مسألة عفوية، ناتجة عن ارتفاع مستوى عدم الرضا الاجتماعي بشكل تدريجي ولكن طويل الأمد. هذا لا ينفي بحال من الأحوال، أن كل حركة شعبية تواجه محاولات عديدة للاندساس ضمن صفوفها وللتآمر عليها من داخلها ومن خارجها، من النظام المستهدف ومن أطراف خارجية.

لكن ما ينبغي التأكيد عليه أيضاً، هو أنّ الحركة الشعبية التي نشهدها (ليس في السويداء أو سورية فقط، بل وفي العالم بأسره ووصولاً حتى إلى الولايات المتحدة)، ليست حركة مؤقتة أو عابرة، بل هي حركة ستمتد لعدة عقود قادمة، ولن تستكين حتى تحقق مهمتها التاريخية في تغيير وجه العالم؛ هذا ما تُعلمنا إياه قراءة تاريخ القرون الثلاثة الماضية، ابتداء من الثورة الفرنسية وحتى اليوم. وهذا ما تثبته الوقائع عبر العالم بأسره.

موجة جديدة

بهذا المعنى، فإنّ المظاهرات التي شهدناها في السويداء مؤخراً، وكذلك المظاهرات المستمرة في بعض المناطق في درعا، والتي لا يجري تسليط ضوء كافٍ عليها، وغيرها من أشكال الحراك في بقاع مختلفة من سورية، هي إشارة أولى عن موجة جديدة من الحركة الشعبية نفسها التي ولدت عام 2011. وإذا كنا نقول: إنها موجة من الحركة نفسها، فهذا لا يعني إطلاقاً أنها نسخة طبق الأصل عن الموجة الأولى التي جرت قبل تسعة أعوام. وحتى لو أن بعض الشعارات والرموز حاولت أن تسرقها نحو الماضي، فإنّ ذلك لا يعدو كونه محاولة من الميت للتمسك بتلابيب الحي، وسرعان ما سترتفع الشعارات والرموز الجديدة وأشكال التنظيم الجديدة، التي ستُظهر حجم الخبرة التي اكتسبتها الحركة، ودفعت ثمنها أنهاراً من الدماء والآلام. ولذا فإنّ المهمة الأولى على جدول العمل الوطني بما يتعلق بالحركة الشعبية، هي تكثيف الخبرات السابقة وتحويلها إلى قاعدة انطلاق للموجة الشعبية القادمة، التي ستمتد إلى كل بقاع سورية، والتي لن يطول انتظارها كثيراً.

في هذا السياق بالذات، نحاول هنا تقديم مساهمة أولية في عملية التكثيف هذه، وذلك عبر التفاعل مع بعض الأفكار الأساسية التي يجري نقاشها بين المتظاهرين أنفسهم وفي محيطهم القريب والبعيد. وهي أفكار وهواجس يناقشها السوريون كلهم داخل سورية وفي المهاجر والمنافي ودول اللجوء.

الكرامة والجوع

قبل انطلاق التظاهرات الأخيرة في السويداء بأشهر عديدة، كانت انطلقت تظاهرات وفعاليات اتسمت بالطابع المطلبي المعيشي بالدرجة الأولى تحت مسمى «بدنا نعيش». منذ ذلك الوقت و«ثوريو» الفنادق يكيلون السباب والتحقير لهذه الحركة انطلاقاً من أنها حركة «أناس جوعى أقصى طموحهم هو ملء بطونهم، في حين أن ثورتنا هي ثورة كرامة»!

الكلام نفسه ليس جديداً، فالعودة بالذاكرة إلى 2011، تظهر أنّ «الثوريين» أنفسهم، كانوا يصرون على الشعار نفسه وعلى الأقوال نفسها، أي أنّ الحركة هي حركة «حريات ديمقراطية» فقط، ولا علاقة لها بالبعد الاقتصادي المعيشي. وهو أمر مقصود، سابقاً وحالياً، والهدف الواضح منه هو إبعاد القضية الاقتصادية الاجتماعية وتسخيفها وتحقيرها، وذلك لسبب شديد الوضوح، هو أنّ البرامج الاقتصادية للـ «ثوريين» إياهم، لا تختلف قيد أُنملة عن برامج النظام القائم، فكلاهما مولع بعلاقات التبعية الاقتصادية مع الغرب وباقتصاد السوق الحر والسمسرة والعقارات والخدمات والبعد كل البعد عن الإنتاج الحقيقي، وليس من مصلحتهم دفع الشارع نحو الاصطفاف على أسس اقتصادية، لأنّ ذلك سيضع هؤلاء «الثوريين» أمام عيون الناس، في خانة واحدة مع الفاسدين والمتسلطين الكبار في النظام.

الأمر بالنسبة لِما اعتدنا على تسميته بالمتشددين من الطرفين، هو صراع على السلطة وعلى النهب، وليس صراعاً لتغيير نمط توزيع الثروة الإجرامي القائم. ولذا فمن الطبيعي أن يركز هؤلاء على شعارات من نمط «إسقاط النظام» (ناهيك عن الشعارات التي تحاول جر الحركة مجدداً إلى اصطفافات دولية وإقليمية محددة بغرض عزلها وإخافة الناس منها)، وطبيعي أيضاً أن يزدري هؤلاء الجانب المعيشي والمطلبي والاقتصادي وأن يحقّروه. ولعل الحس السليم في مجتمعنا لا يزال يؤمن بفطرته الإنسانية الصلبة، أنّ الفقر ليس عيباً في الفقير، العيب هو في النهب وفي من يسبب فقر الناس، بل وأكثر من ذلك فإنّ الفقر في مجتمع كمجتمعنا وفي ظل بنية سياسية فاسدة حتى التعفن، هو أفضل الشهود على صاحبه بنظافة اليد.

ثم لأولئك الذين يترفعون عن جوع الناس تحت مسمى «الكرامة»، أليست إهانة لكرامة المرء ما بعدها إهانة أن يعجز عن إطعام أطفاله أو إيوائهم أو علاجهم؟ أي قهر وذل في العالم بأسره أشد من القهر الذي تقاسيه الأم السورية بشكل يومي حين تخرج إلى الأسواق، وتنقّل نظرها وحسرتها بين مختلف البضائع لتعود إلى بيتها خالية الوفاض أو بالقليل القليل الذي لا يكاد يسد الرمق؟ أي بلاء أعظم من عجز المريض عن تأمين ثمن أدويته إن وجدت؟ 

ليس مستغرباً إذاً أنّ أصحاب هذا التمييز الوهمي بين الكرامة والجوع، يناصرون العقوبات الغربية على سورية ويناصرون قيصر ويعقدون النشاطات والفعاليات المختلفة للاحتفاء بجوع الناس عبر قيصر... ويتجاهلون الأرباح الفلكية التي يحققها الفاسدون والمتسلطون الكبار ضمن النظام من العقوبات نفسها، التي يحققها «المعاقَبون» أنفسهم!!... الأسماء والمواقف معروفة وواضحة وبيّنة، وأي تعاطف كاذب يقول به هؤلاء هو محاولة دنيئة للاستثمار في جوع الناس وآلامهم وفقرهم.

هل يقلل هذا كله من أهمية النضال الديمقراطي ضد القمع وضد البنية السياسية المنتهية الصلاحية بالمعنى التاريخي؟ على الإطلاق، بل إنّ هذه وتلك صنوان لا يمكن الفصل بينهما، وبين المسألة الوطنية أيضاً، ومن يفصل بينها إنما يفعل ذلك للالتفاف على الناس والاستثمار في حراكهم. 

الثنائيات الوهمية

إنّ التأكيد على القضية الاقتصادية الاجتماعية بالتوازي والتلازم مع الشعارات السياسية والديمقراطية والوطنية، ليس ناجماً فقط عن الجانب الإنساني للمسألة، بل له أبعاد ومعانٍ كبيرة أخرى. الناس في سورية منقسمون فعلياً بين أقلية اقتصادية ناهبة وقامعة، وبين أكثرية منهوبة ومقموعة. لا الأقلية تنتمي إلى طائفة بعينها ولا قومية بعينها ولا عشيرة بعينها، بل هي عابرة لكل ذلك، ولا الأكثرية أيضاً. ولكن إذا غيّبنا الجانب الاقتصادي الاجتماعي، يصبح من الممكن تقسيم المنهوبين (أي ما يزيد عن 90% من السوريين) على أساس طوائف وأقليات وأكثريات وقوميات وعلمانيين ومتدينين وعشائر ومؤيدين ومعارضين وإلخ...

التأكيد على القضية الاقتصادية الاجتماعية، هو الباب الأساسي لفرز الناس على أساس مصالحهم الحقيقية، وليس على أساس مصالح فئات سياسية من هذا الطرف أو ذاك. وعليه، فليس مستغرباً إصرار المتشددين من الطرفين على تغييب القضية الاقتصادية الاجتماعية، بل وتسخيفها، لأنّ ذلك يسمح بتحويل الشارع السوري المنقسم إلى أداة بيد الناهبين من الطرفين.

كلمة حول الشعارات

رغم أن عدداً كبيراً من السوريين ينظر بحميمية إلى شعارات ورموز بعينها من نمط «إسقاط النظام» والعلم السوري ذي النجوم الثلاث، إلا أنّ عدداً كبيراً، من السوريين أيضاً، ينظر للشعارات والرموز نفسها بعين الريبة والخوف والشك، بل والحقد في أحيان عديدة. هذا وذاك نتيجة طبيعية لكل ما جرى على درب الآلام والاقتتال والدمار خلال السنوات الكارثية الماضية. ولكن بما أن المهمة الأساسية هي تجميع أصحاب المصلحة بالتغيير الجذري الشامل، أي الـ 90% من السوريين وما يزيد، فإنّ البحث عن شعارات أكثر جذرية وثورية من كل ما سبق، وأكثر قدرة على جمع المنهوبين، هي مهمة حاضرة ولا يمكن القفز فوقها، وعلى رأس تلك الشعارات شعار التغيير الجذري الشامل، وبمفرداته المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية. واقتراحنا ضمن هذا الإطار نفسه، هو ضرورة التأكيد على الحل السياسي عبر التنفيذ الشامل والكامل للقرار 2254 مدخلاً لعملية التغيير المطلوبة والمستحقة، ومدخلاً لإنهاء التدخلات الخارجية، ولتأمين المناخ الذي يفتح الباب أمام السوريين لرفع أصواتهم الحرة ضد الظلم ولتحويل تلك الأصوات إلى وقائع ملموسة ضمن البنية السياسية للدولة. المؤشرات التي نسمعها بشكل مباشر من بعض الشبان ضمن الحراك الحالي، تؤكد وعيهم لهذه المسألة وحرصهم على تحقيقها.

كلمة حول الرموز

بعد كل ما جرى، فإنّ النقاش حول أي علم من العلمين هو الأكثر «شرعية»، يكاد يبدو نقاشاً نافلاً إلى حد ما، على الأقل من وجهة نظر الكثيرين. لكن ما لا يجوز إغفاله إطلاقاً، أنّ الشكل الذي تمت من خلاله سرقة الحركة بطورها السلمي، تضمّن بلا شك مجموعة من الأدوات، بينها: أن يكون في سورية الواحدة «علمان» و«جيشان» و«حكومتان» (أو أكثر)... وإلخ، الأمر الذي يعني حرباً طاحنة ومستمرة لا تنتهي إلا بهزيمة ساحقة لأحد «الطرفين»، وبما أن موازين القوى الدولية لا تسمح بذلك، فإنه يعني استمرار الحرب وصولاً إلى ما وصلنا إليه من دمار هائل، بل ومحاولة الحفاظ عليه وتكريسه ليكون مستنقعاً طويل الأمد.

ضمن المنطق نفسه، اتخذ المتشددون من الطرفين مواقف من نمط رفض الحوار ورفض مبادرة الجامعة العربية، ورفض بيان جنيف ورفض 2254 ورفض سوتشي ورفض أستانا، ورفض اللجنة الدستورية وإلخ... هؤلاء أنفسهم اضطروا لاحقاً، وتحت ضغط الوقائع، إلى الموافقة على هذه الأشياء كلها. هؤلاء أنفسهم ينقسمون اليوم شكلياً إلى قسمين، قسم يدّعي دعم الحراك الجديد في السويداء والتعاطف معه في محاولة لتوظيفه ضمن خطهم السياسي الفاشل نفسه. وقسم آخر يتهمه بأنه مؤامرة.

في البداية، ولكن بمستوى أعلى!

ربما يعتقد البعض أنّ الحديث المطول عن «بضع مظاهرات صغيرة» في السويداء، هو مبالغة وتضخيم لمسألة «صغيرة». ما نعتقده هو: أنّ بضع المظاهرات «الصغيرة» هذه، (والتي لم تخرج في السويداء فقط، بل وخرجت مثيلاتها بأشكال متقطعة ومتفاوتة في أماكن أخرى من سورية)، ليست أكثر من إشارات أولى حول القادم؛ فالأسس العميقة التي دفعت الناس إلى الاحتجاج والتظاهر عام 2011، ليست قائمة حتى الآن فحسب، بل وازدادت رسوخاً وعمقاً. في مقدمة ذلك كله، الظلم بأشكاله المختلفة، الظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والذي يصبّ في مصلحة قلة صغيرة من الطرفين، تستفيد من النهب ومن استمرار الحرب والأزمة، وتصبّ أيضاً في مصلحة معسكر الفوضى الدولية الغربي.

طبيعة تطور الموازين الدولية الذي نعيشه اليوم، والذي يحاول المتشددون في المعارضة تصويره على أنه هزيمة للشعب السوري، والذي يحاول المتشددون في النظام تصويره على أنه انتصار لهم، وتالياً هزيمة لمطالب التغيير الجذري، هذه الموازين في حقيقتها تصب عكس مصالح هذين الطرفين؛ نهاية التوازنات الدولية السابقة هي أيضاً نهاية للفضاء السياسي القديم الذي نشأ وترعرع وتعفن في ظلها، وبشقيه النظامي والمعارض.

أداتان حاسمتان

السلاحان الأكثر أهمية بيد الموجة الجديدة من الحركة الشعبية هما:

  1. المزيد والمزيد والمزيد من تنظيم الصفوف.
  2. الاستفادة إلى الحد الأقصى من التجارب والأخطاء السابقة ومنع تكرارها.

الحركة الشعبية القادمة، وبمستوى أعلى وأنضج وأكثر تنظيماً من الموجة السابقة، ستلعب هذه المرة- مدعومة بالحل السياسي الشامل- دورها التاريخي في بلورة الفضاء السياسي الجديد الذي يعبر عن الناس فعلاً، ويمثل مصالحها فعلاً، لا الفضاء السياسي القديم الذي يمثل مصالحه الضيقة، ويُمثل على الناس...

معلومات إضافية

العدد رقم:
970
آخر تعديل على الأربعاء, 17 حزيران/يونيو 2020 19:01