نهاية عصر الدولار... والسياسات الفاشلة
سعد خطار سعد خطار

نهاية عصر الدولار... والسياسات الفاشلة

تقترب الفجوة الآخذة في الاتساع بين وضع الولايات المتحدة بوصفها القوة التي اعتادت على أن تكون متسيدة للعالم، وبين دور الدولار من نقطة تحول نوعي. ومع تقلص القوة الاقتصادية الأمريكية مقارنة بقوة الدول والمناطق الأخرى في العالم، فإن مسألة دور الدولار على الصعيد العالمي هي مسألة موضوعة على جدول الأعمال بشكلٍ جدي.

حتى الأمس القريب، كان الدولار الأمريكي يسيطر على ما يزيد عن 60% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي في البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم. ويصدر ما لا يقل عن نصف الفواتير التجارية في العالم بالدولار الأمريكي حصراً، وهو ما يشكل خمسة أضعاف حصة الولايات المتحدة من تجارة الواردات في جميع أنحاء العالم، وثلاثة أضعاف حصة البلاد من الصادرات العالمية.

الدولار وسلاح العقوبات

خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من كل من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية باعتبارها «الدائن الرئيسي للعالم»، وذلك بعد أن دمرت اقتصادات البلدان الأخرى التي حاربت فيها. وعمدت إلى تكرار هذا النمط نفسه بعد الحرب الباردة.
واستغلت واشنطن هذه اليد العليا بنشاط لتعزيز دور الدولار عالمياً، بما في ذلك وضعه كعملة تبادل عالمي، هذه العملة التي كانت مستقرة بهذا الشكل أو ذاك على مدى السنوات الـ75 الماضية (هذا على الرغم من العجز المتزايد باستمرار في الميزانية الفيدرالية الأمريكية، والذي بلغ 24 تريليون دولار، متجاوزاً الناتج المحلي الإجمالي السنوي للبلاد بنسبة 17%).
ينمو هذا الدَّين الأمريكي بمعدل 4 تريليون دولار سنوياً. ووفقاً للعديد من الخبراء، فإن الوتيرة المتسارعة التي ينمو بها العجز الفيدرالي الأمريكي، إلى جانب الطباعة غير المنضبطة للدولار الأمريكي يمكن أن تؤدي إلى انهيار اقتصادي بحلول نهاية العام 2020. وهذا لن يوجه ضربة إلى الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل سيؤثر أيضاً على اقتصادات الدول التي استثمرت في السندات الأمريكية، ولم تنتبه إلى ضرورة اتخاذ إجراءات وقائية، كما فعلت روسيا والصين بطرقٍ متنوعة منذ زمن.

أكبر صدمة سلبية

في محاولة أخيرة لتأخير الانهيار الاقتصادي الوشيك، طبعت الولايات المتحدة كميات هائلة من المال، وهي العملية التي تنذر بحسب الدوريات الاقتصادية الأمريكية بكارثة اقتصادية ستبدو معها أزمة الكساد الكبير في الفترة بين 1929 -1946 بمثابة «نزهة». ووفقاً للمضارب الأمريكي المعروف، دوغ كايسي، مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة «كيسي» للأبحاث، فإن «سياسات واشنطن المتهورة أنتجت تريليونات من الاستثمارات الصغيرة التي ستتم تصفيتها لا محالة».
وعلى هذا النحو، توقع الرئيس التنفيذي وكبير الاستراتيجيين العالميين لشركة «يورو باسيفيك كابيتال»، بيتر شيف، أن الانهيار الوشيك للدولار سيكون بمثابة «يوم القيامة» للاقتصاد الأمريكي بأكمله. كما اعترفت الدائرة المقربة للرئيس ترامب بالعواقب الاقتصادية والمالية الخطيرة للغاية التي تنتظر الولايات المتحدة، وهي العواقب التي تفاقمت بسبب فيروس كورونا لكنها لم تكن نتيجة له فقط، حيث يؤكد كبير المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض، كيفن هاسيت: أن الولايات المتحدة تواجه «أكبر صدمة سلبية لسوق العمل منذ الحرب العالمية الثانية».

إلغاء الدولرة والعصا التي لم تعد تخيف

من خلال الحفاظ على السياسة التوسعية في التجارة الدولية، واستخدام أية وسيلة ضرورية لمنع الدولار من الهبوط، تواصل الإدارة الأمريكية استخدام وضع الدولار كعملة احتياطية بوصفه سلاحاً لفرض عقوبات على أعدائها، وخاصة من خلال قطع وصولهم إلى نظام التسويات العالمي بالدولار. ففي عام 2017 على سبيل المثال: حذر وزير الخزانة الأمريكي، ستيفن منوشين، الصين من أنها قد تمنع من الوصول إلى نظام التسويات العالمي بالدولار، إذا لم تتبع العقوبات المعتمدة ضد كوريا الشمالية. وفي عام 2018، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات بلغ مجموعها حوالي 1,3 مليار دولار على البنك الفرنسي «سوسييته جنرال» لالتفافه على العقوبات التجارية الأمريكية ضد كوبا.
وفى العام ذاته، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على شركة روسال الروسية، وهي ثاني أكبر منتج للألومنيوم في العالم، لمنع الشركة من استخدام النظام المالي بالدولار بحرية، وقد شملت عمليات مشابهة كل من إيران وكوريا والعراق والعديد من الدول الآسيوية والأوروبية والأمريكية الجنوبية، وهو ما كان له تأثير مدمر ليس على الدول التي قررت تحدي القرارات الاقتصادية الأمريكية، بل على الاقتصاد الأمريكي ذاته.
ولذلك، فمن الطبيعي أن العديد من الدول التي وجدت نفسها تحت تهديد سلاح الدولار، باتت تدرك خطر الاعتماد عليه، وتميل بالتالي إلى التعبير عن رفضها لهذه السياسة التي تستخدم الدولار لـ«تأديب» الدول وابتزازها وإملاء الشروط عليها.
بناءً على ذلك، باتت الطريق ممهدة إلى خلع الدولار عالمياً، حيث بدأت دول عدة بالبحث عن بديل للعملة الأمريكية في تبادلاتها العالمية، وبعضها مشى شوطاً كبيراً في هذا الاتجاه، إلى حدٍّ بات يمكن القول معه: إن العصر الذي نعيشه هو عصر إلغاء الدولرة من التبادلات العالمية، وتثبيت أنظمة بديلة للتبادل العالمي تعكس بالضرورة واقع التوازنات العالمية الجديدة.
وتساعد حالة التراجع في الوزن الأمريكي العديد من الدول والكيانات الاقتصادية للتعبير عن رغباتها بشكلٍ أوضح، حيث كان من الملفت خلال الفترة الماضية أن تقول الرئيسة الجديدة للمفوضية الأوروبية، أوروسولا فون دير لين: «أنا أريد تعزيز الدور الدولي لليورو»، معتبرة أن هيمنة الدولار على تجارة الطاقة الأوروبية بمثابة «انحراف في السياسات». إن مثل هذه التصريحات كانت تعتبر في الماضي بمثابة «لعب بالنار»، وتصاعد وتيرتها اليوم لا يعكس سوى أن واشنطن لم تعد على نفس المقدار من الهيبة التي كانت تتمتع بها منذ النصف الثاني من القرن الماضي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
967
آخر تعديل على السبت, 30 أيار 2020 12:59