العقوبات و(السلبطة)... مثال  من القمح

العقوبات و(السلبطة)... مثال من القمح

لا يمكن فصل أثر العقوبات الدولية عن التدهور في كافة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في سورية، فالحصار مساهم أساسي في تدهور مؤشرات الصحة، مثل: تقلص وسطي العمر، وارتفاع نسبة وفيات الأطفال، وتوسع نقص التغذية وغيرها... ومساهم أساسي في التدهور الاقتصادي بمؤشراته كافة.

ولكن الأهم، أنه لا يمكن أبداً فصل العقوبات عن تحسن مؤشرات أخرى: حجم النهب والفساد والاحتكار، وزيادة دور الوسطاء والأساليب الملتفة وغير الشرعية وما يرتبط بها من توسع نشاط السوق السوداء والفوضى.

الاستيراد لصالح الدولة و(ربح) العقوبات

يتجلى تأثير العقوبات بشكل واضح في المستوردات، وتحديداً المستوردات لصالح الدولة السورية وهي أكثر جوانب التجارة الخارجية تقييداً. إذ إن الجهات الخارجية المعاقبة تشدّد المراقبة على عمليات الاستيراد لصالح الحكومة، رغم أن العقوبات تقول: إنها تستثني الغذاء ولكن يبدو أن الوسطاء لا يستثنونه!
تقدم بيانات مركز التجارة الدولي بعضاً من التفاصيل التي تتيح المقارنة الملموسة لكلف استيراد المواد إلى سورية، حيث إن بيانات الاستيراد المنشورة في المركز تتضمن كِلف الشحن والنقل، وإذا ما أخذنا القمح مثالاً يتبين التالي...
يبدو من البيانات الدولية أن العقوبات لا تؤثر على تسعير المادة من المصدّر ولا تؤثر على كِلف الشحن والنقل، وللتوضيح أكثر يمكن مقارنة مستوردات سورية ولبنان من وجهات واحدة، حيث تم اختيار روسيا ورومانيا باعتبارهما الوجهتان الأساسيتان لاستيراد الدولتين (حيث المسافة وكِلف الشحن والنقل ذاتها تقريباً)... والشكل يبين التفاصيل التالية:

معطيات من استيراد القمح في 2019

• أسعار الاستيراد إلى سورية أقل من أسعار الاستيراد إلى لبنان، سواء من روسيا أو من

 

رومانيا، رغم أن مسافة الشحن هي ذاتها، ما يشير إلى شراء أنخاب أدنى من القمح بالمقارنة مع لبنان.
• استوردت سورية من رومانيا وبلغاريا نسبة 86% من قمحها في عام 2019، بينما استوردت من روسيا أقل من 15% رغم أن السعر من روسيا أقل بنسبة 13-10%، وحوالي 26 دولار في الطن. بينما يستورد لبنان أكثر من نصف قمحه من روسيا وهي الوجهة الأرخص دولياً.
• استوردت سورية 232 ألف طن من القمح في 2019، وهي أقل من 10% من حاجات الاستهلاك، بينما كانت التصريحات الرسمية السورية قد أشارت إلى توقيع ثلاثة عقود للاستيراد كل منها بمقدار 200 ألف طن (لم يصل منها إلاّ الثلث تقريباً).
• أيضاً وفق التصريحات الرسمية الحكومية فإن العقود الموقعة لاستيراد القمح في 2019 تضمنت سعر 310 دولار للطن للدفعة الأولى من العقد، أي أعلى من السعر المستورد فعلياً بمقدار 110-132 دولار في الطن، ونسبة 53%- 74% من سعر الاستيراد. أي زيادة بمقدار 56 مليون دولار من استيراد 232 ألف طن...
• إن كانت هذه التكلفة هي (تكاليف العقوبات)، فإنها عملياً تدفع من المال العام على وجهات أساسية، تحديداً كِلف تأمين وتمويل في القطاع المالي سواء في مصارف الجهة الدولية التي تم الاستيراد منها، أو في المصارف المحلية، إضافة إلى حصة الوسيط.
• إن هذه التكاليف الإضافية هي تكاليف (تحريك القطع الأجنبي في الحسابات) إن صح القول، فالعقوبات عملياً تتعقب الحركة المصرفية ووجهة ووظيفة استخدام الأموال... وهذه التكاليف لا تتوضح لأنها تتم بالاتفاق بين الوسيط والمصارف وهي تكاليف غير محددة يمكن تحريكها بأية نسبة يتفق عليها الطرفان.
• تعقّب الحركة المصرفية يتم عملياً عبر تعقّب تحويلات القطع الأجنبي، وتحديداً الدولار واليورو... وذلك عبر نظام سويفت الذي يضم معظم المؤسسات المالية العالمية، وتشترك به معظم المصارف الدولية.
• العقوبات تشكل فرصة سانحة لرفع تكاليف استيراد الأساسيات بنسبة تصل إلى 53-74% كما في المثال الحالي... ولكن من يأخذ هذه الأرباح؟ لا بدّ أن المصرف الخارجي الذي يودع الوسيط السوري أمواله فيه يحصل على جزء أساسي من هذا الربح، كما تحصل المنظومة المصرفية الخاصة المحلية، وهي بمعظمها تابعة لبنوك خارجية إقليمية تابعة بدورها لبنوك دولية. كما أن الوسيط صاحب الميزة بالاستيراد وصاحب المال يحصل على جزء هام من هذه التكاليف الإضافية، ولمعرفتنا بالمنظومة الاقتصادية المحلية فإن القوى المتنفذة التي تعطي الوسيط المعين ميّزة الحصول على مناقصة استيراد قمح للبلاد... تحصل أيضاً على الحصة الأهم من هذا الربح. فالعقوبات توزع ربحاً على منظومة المال الدولية، وعلى قوى الفساد والاحتكار المحلية، وتحديداً صاحبة النفوذ والميزات البيروقراطية.

مجدداً ينبغي أن نقول: إن تجاوز العقوبات ممكن، عبر الوصول إلى عقود استيراد مباشرة بين الحكومات بالأسعار الدولية، وبعملات أخرى غير الدولار... فمنظومة المال الدولية لن تستطيع أن تعاقب الحكومة الروسية مثلاً لأنها تورد القمح لسورية، بالوقت الذي تورد به السلاح والمساعدات وغيرها... ولن تستطيع معاقبة الحكومة الصينية لاتفاقها على عقد مع الحكومة السورية لتوريد الأساسيات... ولكن إجراء مثل هذا هو بمثابة (حصار شديد) على منظومة النهب والفساد المحلية التي لا تريد أن (تقطع رزقها) من النهب الذي تتيجه العقوبات، ولا تريد أن تقطع صلتها بمنظومة المال الغربية رغم كل ما حصل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
962
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 14:27