إنفصام الشخصية الأوروبية... إضاءة أولية من الكواليس
سعد صائب سعد صائب

إنفصام الشخصية الأوروبية... إضاءة أولية من الكواليس

«وهل تظن أن إنساناً عاقلاً ومتابعاً لوضع أوروبا السياسي والاقتصادي، يمكنه أن يصدق ما تقولونه عن إعادة الإعمار؟»

تلعب دول أوروبية، وبشكل خاص كل من بريطانيا ألمانيا وفرنسا، دوراً ما، ضمن الأزمة السورية... التوصيف الأبسط لهذا الدور، هو أنه امتداد للدور الأمريكي، ولكن واقع الأمور أكثر تعقيداً...

على الرغم من أن مجمل السلوك الأوروبي من الوضع السوري، يسمح لمن يتعاطى الشأن السوري، سواء من موقع التحليل أو من موقع الفعل السياسي، يسمح له أن يكتفي بتصنيف الدور الأوروبي كتابع ومكمل للدور الأمريكي، باعتبار هذا التصنيف تقريباً مقبولاً، ويتضمن هامش خطأ صغير نسبياً، إلا أنّ القبول بهذا التقريب على المدى البعيد، بل وربما على المدى المتوسط، أي خلال العقد القادم، سيؤدي إلى خلل جدي في تقدير الاتجاه اللاحق لتطور الأمور، خاصة في ظل التطور المطّرد للاتجاهات الطامحة إلى استقلالية أكبر عن التبعية الأمريكية، رغم أن انعكاس وجود ووزن هذه التيارات لا يزال ضعيفاً وفي مراحله الأولى.

عليك أن تجلدهم بالنقد لكي يتحدثوا باحترام!

يكشف لي أحد الأصدقاء من السياسيين السوريين المعارضين عن تفاصيل بعض من لقاءاته مع دبلوماسيين أوروبيين خلال الأعوام الماضية، والتي سيأتي يوم مناسب لنشر تفاصيلها كاملة كما يقول...
يبدأ الصديق بتوصيف عام لمجمل تلك اللقاءات: «أنت مضطر في كل لقاء تجريه مع دبلوماسي أوروبي، إلى البدء من نقاش الوضع الداخلي لبلده بالذات، وللأزمات التي يمر بها، لأنّ هؤلاء معتادون خلال لقاءاتهم بسياسيين من «العالم الثالث»، أي من مستعمراتهم السابقة، على التصرف بشكل متعالٍ؛ هم يسألون عن التفاصيل، ويريدون الحصول على معلومات، ولا يقيمون وزناً للآراء والتصورات السياسية التي يحملها السياسي السوري؛ لا يمكنهم استيعاب فكرة أن سياسياً من تلك المستعمرات يمكن له أن يتعامل معهم بشكل نِدّي، بل وأن يوجه انتقادات حادة لسياساتهم تصل حد السخرية منهم ومن عنجهيتهم ومن أوهام استمرار سطوتهم، خاصة إذا كان اللقاء مع معارض سوري، لأنّ قسماً كبيراً من الشخصيات التي صدّرها وصنّعها الغرب بوصفها معارضة لا تتجاوز في موقعها وأدائها دور الموظف الصغير. لذلك عليك أن تجلدهم بالنقد لكي يتحدثوا باحترام».

إعادة الإعمار والدبلوماسي الألماني

مهما حاولت الحكومات الأوربية تضخيم دورها وتأثيرها في مجرى الأحداث في سورية، فإنها تُقرّ في نهاية المطاف أن أدواتها «المعلنة» الأكثر تأثيراً تنحصر في مسألتين: العقوبات والوعود حول أموال إعادة الإعمار. قائمة الأدوات الأخرى غير المعلنة، تتضمن ملف اللاجئين السوريين في أوروبا، الدعم المستمر الاستخباري لقوى ومنظمات في الداخل السوري، جزء منها إرهابي وتصنفه هي نفسها كمنظمات إرهابية، الدعم المستمر و«النفخ» المستمر لشخصيات سورية بعينها، من تلك التي تعمل لحسابهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وكذلك العمل بالتكافل مع الأمريكي ضمن الأروقة الدولية وداخل المنظمات الدولية.

بالعودة للدبلوماسي الألماني، يحدثني الصديق عن سجال طريف جرى بينهما: «كان الحديث دائراً عن أستانا بمقابل المجموعة المصغرة الغربية، ومن المعتاد في هذه الحالات أن يتحدث الغربي عن فشل أستانا وعن ضرورة إيجاد صيغة توافقية تجمعها مع المصغرة، وهذه النغمة ترتفع مؤخراً، لأن الأوروبيين على ما يبدو متخوفون من أن تلقي بهم المفاوضات الروسية الأمريكية خارج المشهد كلياً. بعد أن وضّحت الفرق بين أداء ودور أستانا والمصغرة، قلت له: ما ينبغي أن تفهموه جيداً أن رابع أستانا غير المعلن هو الصين. كان وقع هذا القول عليه مضحكاً، نفض رأسه كمن يطرد عنه شبحاً، ولجأ إلى أسلوب تقليدي لإبعاد الفكرة عن الطاولة، فبدأ بالحديث عن كون الصين سعيدة بالصراع الأمريكي الروسي، وأن هذا الصراع يُتيح المجال لها كي تتابع تطورها، وخاصة الاقتصادي، بينما الآخرون منشغلون بصراعاتهم، وشعر بأن الحجة التي يدفع بها هزيلة، لأنّ الصراع الدولي الذي يتحدث عنه، يجري بالضبط على كوكب الأرض الذي تشكل الصين بتعدادها السكاني الضخم وبامتداد وضخامة صناعتها وعلاقاتها التجارية والاقتصادية عاملاً أساسياً في تكوينه ومستقبله، على المستوى الكُلّي وعلى مختلف المستويات الجزئية، كما قلت له. وهنا بات مضطراً للعودة إلى الأسلوب الأكثر تقليدية: سورية في النهاية قضية جزئية وصغيرة على المستوى الدولي، والصين ليست معنية بها مباشرة، فسورية بأكملها مساحة وسكاناً لا تشكل بالنسبة للصين أكثر من نصف مدينة صغيرة من مدنها»...

يتابع الصديق سرده للحديث الذي وصل نقطة انعطاف بعد قلة اللباقة التي تصرف بها الألماني بوصفه سورية بأنها قضية صغيرة: «نعم بالفعل كما تقول، سورية بتعدادها وسكانها بالقياس إلى الصين هي أقل من نصف مدينة صغيرة لديهم، ولذا فإن مسألة إعادة إعمارها بالنسبة لهم ليست مشروعاً ضخماً بالمعنى الربحي، كما هي بالنسبة لاقتصاد متراجع ومنكمش ومأزوم كالاقتصاد الأوروبي. أنتم الأوروبيون لديكم تناقض عجيب، من جهة تصرون أنكم تملكون ورقة قوية جداً للتدخل في الشأن السوري هي ورقة إعادة الإعمار، ومن الجهة المقابلة تعترفون بأن الصين وحدها قادرة على حل المسألة ببساطة شديدة، هذا التناقض يدفعني للقول: إن الدور الأوروبي على المستوى الدولي، والذي يظهر من خلال السلوك التجاري الذي تتبعونه في بلد مفتاحي جيوسياسياً واستراتيجياً مثل سورية، هو سلوك قوة صغيرة على المستوى الدولي...»

البريطاني والبعد الأخلاقي والإنساني

في لقاء آخر مع دبلوماسي بريطاني، وخلال إصرار الصديق على أن السلوك البريطاني المتطرف الذي يحرض على حالات قصوى وظيفتها إغلاق الباب أمام إمكانات الحوار السوري والوصول إلى تطبيق 2254، وحين يفقد البريطاني حججه السياسية واحدة بعد الأخرى، يلجأ إلى خط الدفاع الأخير: «قال لي، انظر، ربما يصح ما تقوله بالمعنى السياسي العام، ومن وجهة نظر براغماتية، لأن الحروب الداخلية، تنتهي عبر تسوية ما، يجري فيها غض نظر متبادل عن أمور عديدة، بحيث يتوقف النزيف وتبدأ عمليات إعادة الحياة، ويجري بطبيعة الحال التراجع عن الشعارات القصوى، والقبول بالآخر والاعتراف بوجوده، والتوقف عن المطالبة بمسحه من الوجود، ولكن ما يمنعنا من التعاطي مع الأمور بهذه الطريقة في سورية، هو أن حجم الجريمة المرتكبة تضعنا أمام معضلة أخلاقية، لا يمكن أن يبقى العالم متحضراً إذا قبلنا بتجاوزها، ولذا فإننا لا ننصح أصدقاءنا ضمن المعارضة بالتخلي عن الشعارات التي تسمونها أنتم متطرفة، ونسميها نحن أخلاقية»

«من الطريف حقاً أن يتحدث دبلوماسي بريطاني عن الأخلاق!» يرد الصديق، ويتابع: «يبدو أن مضي أكثر من 150 عاماً على موت جون ستيوارت ميل الذي نظّر للاستعمار الأوروبي بوصفه "دفعاً للأمم الهمجية باتجاه الحضارة" لم تكن كافية لكي تقوموا بإعادة نقد جدية لما فعلتم. إذا كان الجانب الأخلاقي الذي تتحدث عنه هو ما يحكم العمل السياسي، فأعتقد أنكم بحاجة إلى تقديم الاعتذار لمدة 150 عام ابتداء من الآن، لشعوب المستعمرات التي ارتكبت شركاتكم وجيوشكم في بلدانها أبشع الجرائم عبر التاريخ، هل تحتاج إلى تذكيرك بشركة الهند الشرقية؟ والملايين الذين قتلتهم؟ لو كانت المسألة أخلاقية بالمعنى الذي تقوله، فأنا لن أكون مسروراً بمجرد التواجد مع دبلوماسي بريطاني على الطاولة نفسها، لذا أقترح عليك أن تترك الحديث الأخلاقي جانباً، ولنبق ضمن الحديث السياسي»...   

معلومات إضافية

العدد رقم:
921
آخر تعديل على الإثنين, 08 تموز/يوليو 2019 14:52