المنطقة الشرقية: أمنيات بـ «حرب أهلية»
أعلنت واشنطن قبل حوالي ثلاثة أشهر عن نيتها سحب قواتها العسكرية من الأراضي السورية، نتاجاً للصراع الداخلي الأمريكي، الذي أصبح يرى في وجود هذه القوات عبئاً، فوائده محدودة، ومحاطاً بخطر الاستهداف. ولكن من المعروف أيضاً: أن هذا الانسحاب لن يكون هادئاً وسريعاً، بل سيجري بالشكل الذي يسمح بتفعيل التناقضات، وأحدثها، تفعيل اللعب على وتر الصراع القومي.
تسعى أمريكا مع حلفائها في مختلف الأطراف إلى خلق ما يمكن من تعقيدات وصراعات قُبيل رحيلها، وبكل الوسائل والأدوات المتاحة، بالاعتماد على التناقضات الموجودة، ويعتبر استخدام الفالق العربي- الكردي الذي جرى وتجري تغذيته في كل التشكيلات المسلحة الكردية، وقوات سورية الديمقراطية، وتركيا، والعشائر العربية في المنطقة، والمجموعات المسلحة «المعارضة» وأخرى مصنفة إرهابية.
آخر معطيات التصعيد
آخر ما حُرر في هذا الإطار كان إعلان ما يسمى «الجيش الوطني السوري» بأن قواته سيطرت يوم السبت على قريتي مرعناز والمالكية شمال سورية، بدعم وتعاون مع الجيش التركي، ضد مسلحين أكراد ومنها «وحدات حماية الشعب»، كردٍّ على هجوم شنّته الأخيرة في منطقة عفرين وأدت إلى مقتل ضابطٍ تركي. بالإضافة إلى ذلك تشهد منطقة ريف الرقة حالة احتجاجات شعبية ضد «قسد» لمطالبتها بالخروج من المنطقة، والعديد من أحداث تصعيد متبادلة بين مختلف الأطراف... يغذيها الطرح الأمريكي لتشكيل توافق مع تركيا حول المنطقة الآمنة، المستند إلى مسألة «تهديد الأمن القومي التركي» من داخل الأراضي السورية.
«معركة أهلية» احتمال ضئيل ولكن موجود
رغم أن محددات الأزمة السورية العميقة، هي محلية وسورية، وناتجة عن ضعف المناعة الوطنية الداخلية لسورية، كنتاج لعقود من تراجع التقدم الاجتماعي، وتراكم الاحتقان. إلّا أنّ سنوات المعارك التي عمّت مساحات البلاد في السنين الماضية، لم تكن «حرباً أهلية» مثلما جرى تصديرها في عدة مراحل ومن عدة جهات، بل كانت تستند منذ تدويلها إلى عناصر محلية، بمثابة أدوات تدخل خارجي، وكانت المعارك مدوّلة، ذروتها تشكيل ظاهرة داعش، وإنهاؤها.
لكن ما يجري في المنطقة الشرقية اليوم من تعبئة وتحريض في الفالق العربي- الكردي بين القوات الكردية، ومسلحي المعارضة والعشائر السورية يُنذر بأن تتطور الأوضاع باستمرارها على هذه الحال لأول نزاع أهلي سوري، تدفع باتجاهه وتستفيد منه مختلف الأطراف المتشددة عالمياً وإقليمياً، بالتوافق مع مثيلاتها محلياً لاستمرار التأزم والصراع، عبر إحياء منطقة توتر جديدة يكون مستوى التعقيد فيها أكبر من السابق، وتأثيرها سلبياً على مجرى الحل السياسي الذي تؤخر إطلاقه تعقيدات الأوضاع في الشمال الشرقي، وفي إدلب بالدرجة الأولى.
إن احتمال نشوب هكذا صراع لا يمكن التغافل عنه أو التبخيس به، فالأطراف خلفه تدفع اتجاهه بجدّية. لكن بالإضافة إلى ذلك توجد أطراف أخرى تحرّضُ على عدم حدوثه، وتعمل على احتوائه وتأريضه كروسيا وإيران، والتوافق المتاح في ترويكا أستانا. بالإضافة إلى حقيقة: أنَّ المجتمع المحلي تعلّم دروساً لن يكرر بعدها أخطاء الماضي، ورغم أنّ كل ذلك يكون رهناً للتطورات القادمة، لكن وفقاً للبوصلة العامة من تراجعٍ لقوى الحرب والتشدد عالمياً ومحلياً، التراجع الذي يرفع احتمال أن تتضرر الأطراف المتشددة التي تُوتِّر الأوضاع قبل غيرها من ظرف الفوضى.
الأمريكيون والأتراك والمتشددون
الأمريكيون بالدرجة الأولى، معنيون باندلاع صراع بهذا المعنى، وقد يدفعون إليه كل الأطراف، والأتراك، بتناقضاتهم يلعبون دوراً سلبياً باتجاه توتير الوضع الأهلي، أولاً: باحتلالهم لأراضٍ في عفرين تحديداً، وطبيعة سلوكهم وسلوك القوى التابعة لهم فيها. وثانياً: باللعب على وتر العشائر العربية في مواجهة القوات الكردية، الأمر الذي ظهرت ملامحه بتصريحات حول تشكيل جسم عسكري بالتعاون مع مجلس العشائر الأعلى في دير الزور لتحريرها من «قسد». ولكن السلوك التركي، محكوم بالتوافقات مع طرفي ترويكا أستانا الآخرين: روسيا وإيران، اللذين يحاولان أن يجنبا المنطقة توتراً جديداً بدخول القوات التركية أو اندلاع معركة أهلية... والأغلب، أن الوضع سيدفع الأتراك نحو تفاوضات وتوافقات في المنطقة الشمالية الشرقية، لها مسار واحد: أن تخرج القوات التركية، كما الأمريكية، وأن يحمي الجيش السوري الحدود وفق اتفاق أضنة، الذي حقق حماية الأمن القومي التركي طوال المرحلة الماضية، إضافة إلى العنصر الثالث من الحل، وهو: أن تنتهي الطروحات الخاصة لدى الأطراف الكردية، والأوهام المتعلقة بإبقاء السلاح موجوداً في المنطقة، وحمايتها خارج إطار الجيش السوري. أي: تنضم للعمل السياسي نحو تسوية شاملة تضمن حقوق عموم السوريين الأكراد بكل أبعادها: الاقتصادية- الاجتماعية، والسياسية، والثقافية القومية، بعيداً عن المواقف الخاطئة التي يغذيها الأمريكيون.
وأخيراً، هنالك الأطراف المحلية المتشددة الموجودة في كل الأطراف، وهذه القوى تحاول كعادتها أن تناور على كل الأطراف، فتراها محلياً تهاجم التسويات، وتهاجم أطراف أستانا، وتهاجم العشائر العربية، وتهاجم الأكراد، في سلوك سلبي لمن يريد أية معركة تنقذه من الوصول إلى التسويات التي تفرض تنازلات. ولكن تأثير هؤلاء ليس محدّداً، بل محدوداً، في ظل توازنات إقليمية ودولية تفرض نفسها أمراً واقعاً، وتجرّهم مرغمين إلى التسويات.
خروج كل القوات الأجنبية
في نهاية الأمر، يكون الحلّ الوحيد بانتزاع احتمالات التصعيد ولو المؤقت في المنطقة، يعتمد بالدرجة الأولى على خروج الأمريكيين أولاً، وكافة قوات القوى الإقليمية من المنطقة، وتواجد الجيش السوري على الحدود. وأيضاً بتمثيل كل القوى والأطراف السياسية الموجودة في المنطقة وتحديداً الأكراد، ضمن أطر الحل والتسوية السياسية الشاملة، التي يُفترض أن تودي إلى خروج كل القوات الأجنبية من كافة الأراضي السورية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 912