أمريكا و«النووي»... الميزان الذي حُسِم
أحمد علي أحمد علي

أمريكا و«النووي»... الميزان الذي حُسِم

ربما لم يعد مستغرباً من أحد اليوم، النهج الجديد الذي تتّبِعه الإدارة الأمريكية في الانسحاب من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ومحاولة استبدالها باتفاقات ثنائية أو ثلاثية، وضمن هذا الإطار بالتحديد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الأيام القليلة الماضية عن رغبته في عقد صفقة نووية ثلاثية مع كل من روسيا والصين. الإعلان الذي قابله رد روسي واضح حول كون المهمة الأولية والأساسية بين البلدين هي تمديد معاهدة «ستارت».

ما هي معاهدة «ستارت»؟

تم توقيع هذه المعاهدة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في عام 1991، بهدف ضبط الأسلحة النووية والحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية، ودخلت المعاهدة حيّز التنفيذ في عام 1994، ومع بدء التنفيذ تمت إزالة نسبة كبيرة من جميع الأسلحة النووية الإستراتيجية، وتقديرات المصادر المختلفة تتراوح بين (40-70)%.
جرى في عام 2010 تمديد هذه الاتفاقية بين الجانبين الروسي والأمريكي، وهي تسمى اليوم بمعاهدة «ستارت الجديدة»، ونصّت المعاهدة «الجديدة» على تخفيض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الإستراتيجية للبلدين بنسبة 30%، كما فرضت ضوابط قانونية على عدد الرؤوس النووية والصواريخ المسموح نشرها، إن كان على الأرض أو في الغواصات أو على متون الطائرات.
منذ حوالي عام وحتى الآن وأمريكا تلوّح بانسحابها من هذه الاتفاقية، والإعلان الأمريكي السابق ذكره حول «الصفقة» مع روسيا والصين هو محاولة أمريكية جديدة للانقلاب على هذه الاتفاقية واستبدالها باتفاق ثنائي أو ثلاثي.

ما الغاية من ذلك؟!

إنّ المحدد العميق للمسعى الأمريكي إلى فرط الاتفاقيات الدولية، والانسحاب منها من طرف واحد، هو محاولة الاستفادة من إثارة الفوضى العالمية، وخلق أجواء توتير عالمي بوضع التوافقات الدولية على المحك، ومحاولة الأمريكيين أن يعيدوا بيع التوافق للأطراف الدولية الأخرى: أعداءً وحلفاء...
حيث يتم الضغط على الاقتصاد العالمي، بالحرب التجارية، والعقوبات، ومحاولة إعادة التفاوض، كما حدث مع كندا والمكسيك في اتفاقية نافتا، وكما تحاول الولايات المتحدة أن تفرضه بالتفاوض التجاري مع الصين. كما يمتد التوتير ليمسّ محددات في السّلم العالمي والردع، كالانسحاب من اتفاقية «الدفاع المضادة للصواريخ» أو «النووي الإيراني» وغيرها، أو عموم تجاوزات القانون الدولي، في سورية وفنزويلا وفي القضية الفلسطينية...
وجميع هذه العمليات، ضغط أمريكي مسبق من أجل إعادة التفاوض، لخلق أفضل وضع للانكفاء والتراجع الأمريكي.

«أمريكا في الموقع الأضعف»

الإحداثيات الدولية الجديدة تقول: إن كفّة الميزان الدولي التي تتربع عليها الولايات المتحدة، تخف تدريجياً... ولم نعد نستطيع القول: إنها تنفرد بميزة هيمنة عالمية وحيدة دون منافس، إلا بالجانب المالي العالمي، الذي تستفيد منه بالحدود القصوى محوّلة سلوكها إلى (دبلوماسية العقوبات). أما في الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية، والجوانب العسكرية الحاسمة... فإنها تلقى منافسة متسارعة: صينية وروسية بالدرجة الأولى.
والولايات المتحدة حريصة في هذا الصراع على أمرين: إبقاء وضع التوتر الدولي حاضراً، وحريصة على عدم تحوله إلى معركة كبرى ستكون الولايات المتحدة أقل قدرة على تحمّل آثارها. إنها محاولة الإبقاء على حالة الاستنفار واستدامة الأزمات، بمستوى محدد، وبالشكل الذي يعيق تقدم الآخرين، ويتيح للأمريكيين إدارة الأزمة والتراجع، وتحديداً على صعيد الانقسام الداخلي الأمريكي.
خلق الأزمة والتحكم بحجمها، وإعادة بيع التفاوض للآخرين... لذلك وتّر الأمريكيون الوضع الكوري، وعادوا للتفاوض، ويوتّر الأمريكيون الوضع في الخليج وضد إيران، وسيعودون للتفاوض كذلك الأمر، وأوقدوا كذلك احتمالات فرط معاهدات السلم النووي، ويدعون اليوم للتفاوض حولها.

«تراجع الوزن العسكري الأمريكي»

إن الإعلان الأمريكي الأخير حول اتفاقية نووية ثلاثية، مع الصينين والروس، يكشف أن واحدة من بوابات الصراع العسكري، لم تعد قابلة للإطالة، وأصبحت التوازنات الجديدة فيها تلزم الأمريكيين بالحديث عن التفاوض. وهي تعد بمثابة اعتراف علني واضح وسريع بأن الوقائع العسكرية على الأرض وتحديداً النووية، هي ليست لصالح الكفة الأمريكية، وهذا لا يعني سوى أمر واحد، وهو: أن الأمريكيين هزموا في مسألة قدرات الردع والتهديد النووي، المسألة التي تعتبر حاسمة في شلّ طاقة التدمير والحرب الأمريكية، وتضع سقفاً للتمادي في جنون المركز العالمي المأفون.
وهو الاعتراف الذي ستليه اعترافات وتراجعات ودعوات تفاوض أخرى، مع تقدم القوى الدولية الجديدة، وتراجع مركز الفوضى في الغرب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
912
آخر تعديل على الأربعاء, 08 أيار 2019 13:52