بعض من جوانب «خطورة» أستانا!
يتجه التفكير صوب سورية مباشرة لدى أي ذكر لمسار أستانا، وهذا هو الأمر الطبيعي لأنّ مسار أستانا قد أنشئ رسمياً لتنسيق خطوات دولٍ ثلاث ترى أن بينها مشتركات بحدود ما فيما يتعلق بالشأن السوري.
مضى الآن الوقت الذي كان المرء يحتاج فيه إلى تجميع الأدلة والإثباتات والقرائن والإشارات على أنّ علاقة ثلاثي أستانا أوسع وأكبر وأعمق من المسألة السورية؛ فقد بات الأمر واضحاً وضوحاً عالياً وملموساً، ورغم ذلك فإنّ بعض جوانب أهمية أستانا لا تزال بحاجة لدراسة لسبر أعماقها ومعرفة أبعادها.
فلننظر للخريطة
بدأنا بالقول: إن أستانا توجه النظر والتفكير صوب سورية، ولكن إذا نظرنا إلى الخريطة وأضفنا لهذه الدول الثلاث التنين الصيني سنجد لوحة مذهلة تبدو فيها الدول الأربع كطوق دائري يحيط بآسيا الوسطى بأكملها، ويشكل معها آسيا كلها تقريباً؛ سنجد ضمن هذا الطوق كلاً من: (الهند، باكستان، أفغانستان، طاجكستان، كازاخستان، قرغيزستان، أذربيجان، تركمانستان).
لا يحتاج المرء إلى ثقافة تاريخية احترافية حتى يضع فوق هذه الخريطة إشارات وعلامات الصراعات البينية بين هذه الدول جميعها ابتداءً بالرباعي نفسه؛ على الأقل يمكن التأكيد أنّه خلال السبعين سنة الماضية، أي: منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تقريباً، لم يمرّ يوم واحد لم تكن فيه حالة العداء والتوتر والصراع قائمة بين كل دولتين متجاورتين من بين هذه الدول، وحتى الدول غير المتجاورة كانت بينها صراعات، وهذه الصراعات بمجملها هي التركة «الثمينة» لإمبراطورية شركة الهند الشرقية، وبصيغة أعم للاستعمار الأوروبي الذي احتل بشكل أو بآخر القسم الأعظم من هذه الدول، ورسم وأعاد رسم خرائطها مرة بعد أخرى، ليضمن وجود أكبر قدر من الألغام القابلة للانفجار مرة وراء مرة.
ربما تكون هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تنشأ فيها إمكانية نظرية وعملية لتطويق الخلافات والتوترات عبر الرباعي الذي أشرنا له، والذي باشر العمل فعلياً في حل جملة من الصراعات، منها على سبيل المثال لا الحصر: (الهند باكستان)، و(أفغانستان- باكستان) وداخل أفغانستان نفسها...
سنّي- شيعي
إحدى ثيمات الصراع البيني ضمن المنطقة، والتي لعب الغرب عليها خلال العقود الماضية، والأمريكان خاصة، هي الفالق السني الشيعي، على مستوى الدول وعلى المستوى الداخلي ضمن كل دولة على حدة. والتقارب الحاصل ضمن أستانا بين أكبر دولتين فيهما أكبر عدد نسبي من الشيعة والسنة، أي إيران وتركيا، أوقع ضرراً قاتلاً في هذا الفالق الذي بدأ بالغياب والاضمحلال بشكل متسارع حتى على مستوى الخطاب السياسي الضمني؛ إذ برز في عقول الناس وعلى نحوٍ جليٍّ، أنّ الصراع في مكان آخر كلياً، وعملية تنمية الأحقاد واختراع الأعداء الوهميين من شأنها أن تصل إلى نهايتها طال الأمر أم قصر.
وبكلمة، فإنّ أستانا بهذا المعنى، هي ضربة في الصميم لمخطط الفوضى الخلاقة، الذي لا ينبغي أن يفهم منه أنّه خطة يجري تطبيقها للوصول إلى حالة جديدة، بل هي بالضبط «أسلوب حياة»، أي: إنّ الغرب والأمريكان المأزومين بالمعنى التاريخي كإمبريالية، لم يعد أمامهم من طريقة للاستمرار إلا عبر فوضى مستمرة يقومون بإدارتها.
القضية الكردية
الفالق القومي بين شعوب المنطقة هو الآخر فالق جرى الاشتغال عليه طويلاً، ولعل أكثر أشكاله وضوحاً هو مظلومية الكرد المضاعفة، مظلوميتهم السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي يعيشونها أسوة بإخوتهم من الشعوب الأخرى الخاضعة لأنظمة تابعة للغرب بشكل أو بآخر ويهيمن فيها فاسدون كبار ومتعهدو الاستيراد والتصدير غرباً، ومظلوميتهم القومية التي تأخذ أشكالاً ودرجات تختلف من دولة إلى أخرى من الدول الأربع التي يتوزعون ضمنها.
طوال السبعين سنة الماضية التي نتحدث عنها، لم تكن الحالة السائدة هي العداء والتوتر الدائم بين الأنظمة السياسية التي يعيش تحت عسفها الكرد، بل وكانت «الميزة» الإضافية أنّ حكام هذه الأنظمة يمكن أن يختلفوا في كل شيء، لكنهم دائماً ما يتفقون على قمع الكرد.
للمرة الأولى في التاريخ الحديث أيضاً، ينشأ الأساس الأولي الذي يمكن بتطويره حل القضية الكردية حلّاً عادلاً ومتكاملاً، إضافة إلى الحلول الجزئية. نقصد بذلك أنّ تطور العلاقات ضمن أستانا إضافة إلى الصين، والعمل المشترك بين هذا الرباعي على نزع فتائل وألغام الغرب من المنطقة، سيسمح مع الوقت بتجاوز حالة العداء والتوتر البيني القائم في مجمل آسيا، وسيفتح الطريق لسيادة علاقات حسن الجوار والتعاون في حل المسائل المعلقة بصيغ تفرضها الضرورة الموضوعية للتطور، وهي الضرورة التي تعكس دائماً مصلحة الشعوب...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 909