عدم تجديد إنتاج جهاز الدولة.. وخطر الفوضى
تقول الأرقام التقديرية بأن جهاز الدولة قد خسر خُمس عامليه المدنيين خلال سنوات الأزمة، وبينما تقول المشاهدات والعينات أن الأرقام أعلى من هذا بكثير.. ولكن أياً تكن الأرقام فإن المهم هو: أن الخسارة مستمرة في القوى البشرية، وبالتالي في بنية جهاز الدولة، ودوره الاقتصادي-الاجتماعي- السياسي اللاحق.
صدّرت سورية قوة عملها للإقليم وما بعده، قبل الأزمة وخلالها، وهاجرت تحديداً القوى العاملة الشابة، والكفوءة، وفي عام 2004 كانت الإحصاءات السورية تسجل 620 ألف مهاجر ناشط اقتصادياً في الخارج.
العنف الطارد
ترتبط ظاهرة الطرد المليوني للسوريين اليوم، بما نجم وينجم عن ظروف الكارثة الإنسانية السورية الممتدة على ثماني سنوات مضت.
فبينما تحولت ظروف الهرب من العنف إلى محدد لخروج وإفراغ مناطق سورية دارت فيها رحى المعارك. فإن معدلات الموت والإصابة ودرجة الخطورة، كانت دافعاً أساسياً لمغادرة شريحة الذكور الشباب بين 18 وحتى أربعين عاماً، ممن تستحق خدمتهم العسكرية أو الاحتياطية، مع ما يجره هؤلاء من عائلات وراءهم، وإذا أردنا أن نقارب عدد هؤلاء فإننا نتحدث عن شريحة تضم 2.5-3 مليون شاب في عام 2010.
الفقر الطارد
بعيداً عن هذا وذاك، فإن مستويات الفقر الحاد التي تطال كل العاملين بأجر، والمعيلين لأسرهم، هي أيضاً عامل حاسم لا يميز بين الذكور والإناث، بين الشباب والخمسينيين فما فوق.
وإذا ما كان هذا واقع الحال في عموم سوق العمل السورية، فإن جهاز الدولة طارد أساسي للقوى البشرية العاملة ضمنه، وهو الذي كان يشغل قرابة 1.5 مليون عامل مدني وعسكري في عام 2011.
فبوسطي أجر اليوم يقارب 35 ألف، وبسقف أجور لا يصل إلى 60 ألف شهرياً، وبمعدلات مكافآت وحوافز قليلة ومقتصرة على شريحة ضيقة. فإن العمل من الساعة الثامنة وحتى الساعة الثالثة وسطياً في دوائر الدولة المدنية يصبح بلا جدوى. (اللهم إلا لشريحة قليلة ممن يستطيعون أن ينالوا «أذناً من جمل» كتلة الهدر والفساد التي تتكدس في الوظائف العليا).
أجور الدولة اليوم عامل طارد، حتى أن الكثير من عمال القطاع العام يذهبون للمجهول، وللأعمال الحرة غير المستقرة لتكون هذه بالمفاضلة خير لهم من أجور لا تكفي في حالات موظفي الريف مثلاً لتغطي كلف وصولهم إلى مراكز العمل. فأي فني كهرباء على سبيل المثال يستطيع أن يحصل على 35 ألف ليرة من أسبوع عمل خاص..
الرؤية الضيقة لأجور الدولة
الحكومات تتعامل مع هذا الواقع على أنه مشكلة مالية، فتعالج مسألة زيادة الأجور والرواتب لعمالها، من موضع توفر السيولة أو عدم توفرها. ولكن فعلياً فإن هذه الرؤية الضيقة تتجاهل النتيجة الواسعة لعدم رفع الأجور. والمتمثلة بعدم القدرة على تجديد إنتاج مهام جهاز الدولة، التي يجب أن تقوم بها القوى العاملة البشرية، وما بيدهم من استثمارات ومعدات وإنفاق.
وحتى من وجهة النظر المالية، فإن دور دولة أقل، يعني موارد أقل، وانخفاض القدرة على التحصيل، وزيادة القدرة على التهرب وتجاهل مستحقات المال العام... فطالما أن الدولة لا تقدم لك خدمات تذكر، فإنك لن تكون مستعداً للدفع لها! هذا منطق قطاع الأعمال.
الخطر على الدور السيادي
إن أثر تقليص دور الدولة لا يسبب خسائر اقتصادية ومالية فقط، بل أبعد من ذلك. فطالما أنّ كلا الجانبين البشري والمادي يتضاءلان فإن جهاز الدولة يتضاءل أيضاً، لينتج عن هذا فراغ موضوعي، لا يقتصر على نقص الخدمات، ونقص الدور الاجتماعي.. بل يمتد لجوانب أخطر، ليصبح دور الدولة السيادي في خطر. وليهدد جوانب الدفاع والأمن وحفظ السلم، لأنهُ حتى العاملين هنا، هم عاملون بأجر، وأيضاً الكتلة الأكبر منهم لا تنال شيئاً من حصة الفساد التي تتمركز في الأعلى... وبالتالي حتى هؤلاء لن يقدموا على مجالات العمل غير المدني الخطرة والمتعبة، وتجديد القوى البشرية العاملة هنا أيضاً يصبح أقل.
إن تضاؤل جهاز الدولة، نتيجة حجب الموارد عنه، يعني عدم قدرته على تجديد قواه البشرية والمادية.. وهو أمر أدى ويؤدي مع الوقت إلى «رخاوة الدولة» وتحول جزءٍ كبيرٍ من نشاط عامليها للبحث عن موارد دخل ملتفة. وهذه المسألة لا ترتبط بطرف سياسي دوناً عن طرف، بل هي خطر يهدد جميع السوريين، ويفتح احتمالات الفوضى. فالأطراف الدولية التي أرادت أن تلغي دور سورية التاريخي، بل وحتى وجودها.. أرادت معركة مسلحة تمتد وتستعر، ويدخل جهاز الدولة طرفاً فيها للنيل منه وإضعافه. أما الأطراف الداخلية التي تتعامل مع جهاز الدولة بصفته عبئاً مكلفاً، فهي أيضاً تهدد جهاز الدولة وتعمل على النيل منه وإضعافه.. إن حماية جهاز الدولة تكون بنقل الموارد من المواضع التي تتكدس فيها لدى أمراء وأثرياء الحرب، إلى عمال وكوادر جهاز الدولة الأمر الذي يؤدي إلى رفع مستوى الأجور في عموم البلاد، ويشكل عتبة ضمان لمستقب