المعركة الأصعب: «انتصرنا»... ولكن!
يعيش السوريون اليوم حالة غير مسبوقة من عدم الرضا الاقتصادي والاجتماعي، فبعدما بدأ الكثيرون منهم يستشعرون قرب انتهاء الأزمة، عاد هؤلاء أنفسهم ليتمتموا حزناً وهمّاً: «فكرناها خلصت بس شكلا ما عم تخلص» فالبلاد اليوم تعيش في جملة من الأوضاع المعيشية والاجتماعية المتردية، وذلك بالتوازي مع عقوبات غربية وأمريكية جديدة متصاعدة، ولا وجود لأفقٍ واضحٍ بالنسبة للغالبية العظمى من السوريين. فهل سيستمر الوضع بهذا الشكل؟ وكيف يمكننا التعامل مع ذلك؟
حتى نستطيع التعامل مع هذا الظرف يتوجب علينا بدايةً أن نفسر ما يحدث تفسيراً صحيحاً حتى نتمكن من تغييره، وهذا يستدعي منّا الإجابة عن سؤال أساسي وهو: ضمن أيّ سياق دولي وأيّ سياق محلي تحدث هذه الأزمات؟
بالمعنى الدولي: فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية اليوم لم تعد قادرة على التدخل العسكري المباشر، وحتى إمكانيات التدخل العسكري غير المباشر تقلصت إلى حدود وهوامش ضيقة، وذلك بحكم التوازن الدولي الجديد الذي بات التراجع الأمريكي سِمته الأساسية. ولذلك لم يبقَ أمامها خيار سوى إزاحة مركز ثقل الهجوم على سورية باتجاه الجانب الاقتصادي مرة أخرى. ولكن هل سيتمكن الأمريكي عبر هذه الخطوة من تحقيق ما لم يستطع تحقيقه بالعسكرة والسياسة خلال السنوات الماضية؟
إذا أردنا أن «نريح أنفسنا»، نستطيع أن نغمض أعيننا ونقول: لا، لن يكون من أمرهم شيء. ولكن إذا أردنا أن نأخذ الموضوع على محمل الجد فيتوجب علينا أن نقرأ السياق الداخلي للموضوع، وهذا يقودنا لقراءة أوسع من وجهة نظر ارتباط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عِبر سنوات الأزمة وما قبلها.
الدّوامة الكارثية
خلال السنوات التي سبقت سنوات الأزمة وتحديداً في الفترة ما بين الـ 2006-2010 جرى تطبيق مجموعة من السياسات الاقتصادية الليبرالية أو ما سمّي بـ «اقتصاد السوق الاجتماعي» قادت البلاد عبر ما نتج عنها إلى المزيد من التدهور الاقتصادي. فقد رفعت نسبة الفقر من 30% إلى 44% وذلك وفقاً لأرقام غير رسمية- ولكن الأرقام الرسمية ليست بعيدة كثيراً عن هذه الأرقام- إضافةً إلى تزايد نسب البطالة، وتراجع الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية، وذلك بسبب الاعتماد الكبير على نمط الاقتصاد غير المنتج، أي: التوجه نحو القطاعات الربحية كالمصارف والسياحة والخدمات. إضافةً إلى المصائب التي طالت عدداً كبيراً من الصناعات الحرفية التي كانت تشكّل مصدر دخلٍ أساسي لعشرات الآلاف من العائلات السورية، وذلك نتيجة فتح الحدود للبضائع التركية، وغيرها الكثير من الكوارث التي شكّلت بمجموعها بدايةً الأزمة الاقتصادية. ومع استمرار هذه الأزمة وتعمقها تحولت شيئاً فشيئاً إلى أزمة اجتماعية وتوتر واحتقان شعبي عالي، وهذا بدوره تحوّل إلى أزمة سياسية انفجرت في عام 2011، وتمّ استثمارها لصالح القوى الغربية، وبالتالي فإن مجمل التدخلات الخارجية التي حدثت عمّقت الأزمة ولكنها لم تختلقها.
أي: أننا خلال الفترة ما بين الـ 2006-2010 مررنا بأزمة مكونة من ثلاث مراحل: (اقتصادية– اجتماعية– سياسية). وبعد الـ 2011 استمرت السياسات الاقتصادية الليبرالية، وتعمقت أكثر وأدّت إلى أزمة اقتصادية أكبر وأعمق من الأزمة الاقتصادية الأولى، والتي أدت بدورها إلى أزمة اجتماعية أعمق، وبالتالي أزمة سياسية أعمق. ويمكننا اليوم أن نقول أننا عُدنا للدخول ضمن الدّوامة نفسها مرة ثالثة، ونحن حالياً ضمن الطور الثاني من هذه الدّوامة، أيّ: ضمن طور الأزمة الاجتماعية والاحتقان الشعبي والتوتر الاجتماعي، والذي سيقود إلى أزمات سياسية ستكون أعمق وأخطر مما سبق، ولذلك يجب إيقاف هذه الدّوامة ويجب كسر هذه الحلقة المفرغة المدّمرة. ذلك أنّ أعداء البلاد في الخارج ومن يلفّ لفّهم في الداخل من الفاسدين الكبار، جادّون بعملية التدمير الممنهجة تلك حرصاً على مصالحهم. وهذا ما يتطلب من كافة الوطنيين السوريين في أيةِ جهة كانوا، التعامل مع هذا الموضوع بمنتهى الجدية. فالبعض يظنّ بأننا بانتصارنا على الإرهاب، وباستعادة الدولة لمساحات واسعة من الأراضي السورية قد انتهينا من الجزء الأصعب من الأزمة. ولكن الحقيقة تقول: إننا الآن بدأنا بالمعركة الأصعب، وهي معركة الحفاظ على ما تبقى من السيادة السورية عبر الحفاظ على كرامة المواطن ولقمة عيشه