«العصر الأمريكي» هبوط لا رجوع عنه
يتجاذب العالم منذ مطلع القرن العشرين قطبان متصارعان: الامبريالية وسعيها للبقاء والتوسع من جهة، وشعوب العالم وحاجتها للتطور غير الاستغلالي من جهة أخرى... وسط هذا الصراع المستمر أتت تجربة تشكيل الاتحاد السوفييتي، ودول المنظومة الاشتراكية، كعلامة فارقة في هذا الصراع. حيث نقل الثوريون الروس الصراع إلى مستوى جديد عندما أسسوا التجربة الأولى لنظام بديل، أثبت قدرته على المنافسة. ولكن هذا الميزان اختل مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وأصبح العالم رهينة للقطب المهيمن الواحد الأمريكي كرأس حربة للإمبريالية: اقتصادياً بفرض النيوليبرالية، وبإمساك عصب المال العالمي عبر الدولار، وعسكرياً بقوة البطش والعنف التي تحمي المنظومة، وسياسياً بمنطق العلاقات الدولية المتشكل بعد الحرب العالمية الثانية، والسائد مطلع التسعينيات...
يزودنا عالم اليوم بالدلائل اليومية، على مرحلة نوعية جديدة في هذا الصراع: فالإمبريالية، ومركزها الأمريكي تحديداً يزداد ضعفاً، وباقي شعوب العالم تخطو خطوات متسارعة إلى الأمام... وإن كان صراع قطبي شعوب وإمبريالية قد تجلى في مرحلة ما بالمنافسة السوفيتية- الأمريكية، فإنه اليوم يظهر بالمساحة التي تسحبها دول العالم الصاعدة، من الهيمنة المطلقة الغربية، ويظهر في مقدمتها دولتان: روسيا والصين، اللتان تجتذبان تدريجياً إلى صفهما مجموعة دول إقليمية هامة.
اقتصادياً أصبح لدول المعسكر الغربي ثلث الإنتاج العالمي، بعد أن كانت تنتج الثلثين في الستينيات، وأصبح محرك الابتكار والتجارة العالمية ينبض من آسيا. مالياً أصبح الهجوم على الدولار العالمي، أمراً واقعاً، وحسم الجميع أن إزاحته من موقع الصدارة مسألة وقت. أما عسكرياً فإن ما راكمته خبرات المرحلة السوفيتية تظهر بتفوق قوة الردع العسكرية الروسية، على الآلة العسكرية الأمريكية، وبزمن تعويض قياسي منذ مطلع القرن الحالي وحتى اليوم. والأهم أن حصد الثمار السياسية لكل هذا يظهر بقوة التدخل الدبلوماسي في مواجهة مشروع الفوضى والدمار الإمبريالي. حيث تسعى القوى الصاعدة وروسيا بالدرجة الأولى إلى فرض منطق علاقات دولية جديدة، يعكس ميزان القوى الدولي الجديد: بإمبريالية أضعف وأقل قدرة على الهيمنة، وبنهاية العصر الأمريكي المطلق، وبقوى العالم الجديد تدافع عن نفسها أولاً، وتهاجم العالم القديم ثانياً.
إن هذا الصراع مدفوع بالقوة الموضوعية لحاجة البشرية للسير إلى الأمام، وهو يسير بحتمية التاريخ، نحو مزيد ومزيد من المنعطفات، حيث الشعوب تزيح قرون الهيمنة عن كاهلها.
وإن شاءت المصادفة التاريخية أن تأتي الأزمة السورية، في لحظة حاسمة من هذا الصراع، فإن مسارات حلّها أيضاً محسومة... حيث لن ينجح مشروع الفوضى التفتيتي في إنهاء وحدة البلاد، واستمرار العنف لأمد طويل، وسينجح حتماً التعبير عن ميزان القوى الدولي الجديد في نموذج حل الأزمة السورية: حلاً سياسياً جامعاً، يعيد السلطة للشعب، وينهي الإرهاب، ويؤمن لعموم السوريين المساحة الضرورية ليستعيدوا سيادتهم على بلادهم، تلك السيادة التي لم تُستلب خلال سنوات الأزمة فقط، بل عبر عقود سابقة من الظلم والتخلف، التي أمنت أرضية الاحتقان الاجتماعي العميق، وأثرت قلة من نخب الفساد والمال.