أسلحة روسيا غير المرئية
هل نبالغ بالقول: بأن بوتين أعلن من خلال خطابه أمام الجمعية الاتحادية قبل أيام بداية مرحلة جديدة في العلاقات الدولية؟
لم يأخذ خطاب صاحب «الأسلحة غير المرئية»، التي جعلت التفوق العسكري الأمريكي مجرد ذكرى سوداء في التاريخ البشري، الحيز اللازم من اهتمام وسائل الإعلام، فليس هناك متسع من الوقت في منابر التفاهة والبروباغندا، لحديث جدي عن مستقبل البشرية، ومستقبل العلاقات الدولية، رغم أن الدم يكاد يتدفق من الشاشات في ظل الكوارث المتجولة في جهات الأرض الأربع، على إثر عقود من الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي.
وكي نتجنب مواعظ السذج، وأصحاب النزعة الإنسانية الطارئة، و«بروباغندا شيطنة روسية»، نوضح سلفاً، لانقصد بالأسلحة غير المرئية الأسلحة العسكرية فقط، على أهميتها، في لجم زعران قوى الحرب في الإدارة الأمريكية، بل نقصد أيضاً، وربما قبل ذلك تلك التوجهات والتحديات الاقتصادية التي أعلن عنها الرئيس الروسي، وتعهد بتنفيذها خلال الولاية الرئاسية القادمة، وما تعنيه بالنسبة لدور روسيا اللاحق في الوضع الدولي ككل، ولعل الرقم الأبرز الذي ينبغي الوقوف عنده هو التحدي الكبير بمضاعفة الناتج الاجمالي للفرد بنسبة 150%. وهو ما يتطلب نسب نمو عالية نسبياً، ونسب النمو هذه تستوجب بالضرورة البحث عن موارد، والبحث عن موارد يتطلب نمطاً معيناً من توزيع الثروة، بمعنى أوضح، إن روسيا لا تعمل على تطوير قدراتها العسكرية فحسب، بل تسعى إلى التطوير الشامل، بما يمكنها من رسم نموذجها الاقتصادي الخاص.
ما يهمنا هنا كقوى معارضة وطنية سورية بشكل رئيس، هو: أنّ هذه القوة الدولية الصاعدة، إنما تجذر خياراتها، باتجاه المواجهة مع التوحش الأمريكي، والاستفراد الأمريكي والهيمنة الأمريكية، وبالأخص هيمنتها الاقتصادية ذات الطابع «الشايلوكي» الربوي، التي انعكست في البلدان الطرفية بالسياسات النيوليبرالية المدمرة، وتستكمل الأدوات التي تتطلبها مثل هذه المواجهة، بما يعنيه ذلك من فتح الأبواب أمام من يريد من البلدان الطرفية، حتى يدخل التاريخ من جديد، ويساهم بدوره في القادم من زمن الحضارة البشرية، فتثبيت التوازن الدولي الجديد بكامل أبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، الذي كان محور خطاب الرئيس الروسي، يعني: أن عالم التعددية القطبية بات أمراً واقعاً، وهذا يعني وفق منطق القوى الدولية الصاعدة، توسع هوامش الحركة للقوى الحية في عموم العالم، وبالدرجة الأساس في بؤر التوتر كي تعزز دورها، وترسم سياساتها وتضع برامجها، وترسم نموذجها الخاص، وعلى أساس أن الانتصار ليس ممكناً فقط، بل ضرورة تاريخية تتطلب تجاوز الحالة الانتظارية، والحيرة والتردد، والإحساس المزمن بالعجز، وقبول الأمر الواقع الأمريكي.. وبالملموس يعني: أن التغيير الجدي بات على جدول الأعمال، وأن الصراع سيرتسم وفق أسسه الواقعية، بين الناهب والمنهوب، بين الوطني واللاوطني.
قوى حرب وقوى سلم
لا نظن أن عاقلاً يمكن أن يسعد بزيادة التوتر في العلاقات الدولية، وبالأخص بين الدولتين الأهم نووياً، ولكن التوتر القائم هو في جذره نتاج هيمنة النموذج الأمريكي ومحاولات تأبيده، كون الحرب والعسكرة معادله ، وبالتالي فإن كسر دائرة الهيمنة الأمريكية، يعني لجم الجنون الرأسمالي، يعني إعادة التوازن إلى العلاقات الدولية، وتقدم الدور الروسي، بنموذجه الخاص الجديد، يعني إشاعة السلم، لأن المواجهة مع الاستفراد الأمريكي يؤدي بالضرورة إلى أحد أمرين:
القبول بالأمر الواقع، والتكيّف مع حالة وجود أنداد وشركاء في العالم، وهو ما يعني انهيار تدريجي للمنظومة كونها مبنية على أسس الهيمنة والاستفراد، والتحكم.
أو ارتكاب حماقات، والذهاب إلى خيارات شمشون، وإشاعة الفوضى، مما يعني تسارعاً في التراجع، وإن كان يكلف أثماناً باهظة في الجوانب المادية والروحية للمجتمع البشري. لكن، وفي الأحوال كلها، إن مرحلة سقوط النموذج الغربي في الهيمنة باتت أمراً واقعاً، والنموذج البديل– النقيض يشق طريقه، كضرورة موضوعية من جهة، ولتوفر حوامله وتقدم دورها ووزنها من جهة أخرى