الفرز الطائفي.. والفرز السياسي

ترشح سورية اليوم إلى احتمالات وشيكة لمآلات سيئة ظهرت معالمها منذ بداية الأزمة، وتزداد عمقاً ووضوحاً خلال هذه الفترة. فبعد أن حمل الحراك الشعبي بذور الأمل بقدرته على مواجهة أعدائه الكثر، عادت الكفة لتبدو وكأنها ترجح مؤقتاً لمصلحة كل من يحمل لواء العنف والتضليل، وبدأ عنف الحل الأمني يطغى على أطراف معادلة الأزمة، 

 ويزداد الانحراف الناجم عن التدخل الخارجي، وما ينجم عن كل منها من شرعنة السلاح والدفع نحو تبنيه ورفعه أمام عدو وهمي، ويضع الشارع السوري مقسماً بين أقطاب تُبذل جهودٌ عميقة لترسيخها وتمتين اصطفافاتها دفعاً نحو الوصول إلى نقطة اللاعودة، وتحويل الوحدة الوطنية وكل مقومات لم الشمل الوطني إلى نوع من الترف الفكري الحالم، وفسح المجال أمام النقاش والجدل حول ما كان من محرمات العرف الوطني السوري كواقعية التقسيم، أو جدوى ومنطقية الاستقواء بالخارج، أو إزالة مدن عاصية عن الخارطة وكما يقال «بلا درعا، أو بلا حماة» ، أو الاعتقاد بضرورة الإفراط بالحل الأمني المتهاون حتى الآن في مواجهة «الرعاع المتآمرين المتظاهرين»، أو التسليم بأن الصراع الأهلي هو مرحلة ضرورية «للتحرر المنشود»، وصولاً إلى مناقشة العلاقة مع إسرائيل وفتحها على احتمالات تقبل الرأي والرأي الآخر، وتأجيل قضية الجولان واعتبار الساكتين عنها أصحاب رأي سياسي وحنكة دبلوماسية..

كل هذا أصبح اليوم يظهر في حوارات السوريين حول الأزمة، وهو ما لم يأت من فراغ، بل عملت الأزمة على تسعيره بينما كانت ترقد مكوناته في أعماق المجتمع السوري وتتوسع يوماً بعد يوم، منتظرة فتيل العنف لتظهر على السطح، فالأقطاب التي تمارس التفتيت اليوم قائمة على أساس الفرز الطائفي، وكذلك على أساس الفرز السياسي «نظام – معارضة» القائم على ادعاء كلا الطرفين تمثيل السوريين وعدم الاعتراف بتشكل الشارع المقابل واعتباره جموع من المنتفعين سواء من مكاسب النظام، أو من مكاسب «المؤامرة» والخارج، وما ينتج عن هذا بالابتعاد عن لم الشمل وترسيخ التقسيم والشحن، بهدف تجنب ملامسة المضمون الحقيقي للحراك الشعبي الذي يشكل عامل وحدة أبناء الوطن ووحدة مصالحهم، والذي يعيد الخطاب السياسي ليعكس حقيقة موضوعية الاحتقان الاجتماعي واعتباره نقطة بداية في حل الأزمة، وإعطائه أبعاده الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، لأن ذلك هو المنصة التي تعيد المعارضة المتشددة إلى معطيات الواقع وتوازن القوى ومصلحة سورية والسوريين، بعيداً عن المغالاة والتبجح والاستقواء بالخارج، وتضع النظام كذلك على سكة الرؤية الحقيقية للأزمة والسير الجدي الوطني والمسؤول نحو حلها، بعيداً أيضاً عن المماطلة والمغالاة في دور المسلحين والمؤامرات.

أما الفرز الطائفي فهو المكون الأبرز في الواقع السوري، والأداة الأمثل لجميع وسائل التسويق الإعلامي لتيارات التطرف في كلا الطرفين، حيث تكاد لا تخلو منابر الإعلام الدولية من التصنيفات الطائفية، في تحليل بنية النظام والجيش والمدن والمعارضة والموالاة، وكذلك على منابر التخلف الإعلامي المحلية التي تختبئ وراء الغمز واللمز في تبنيها ترسيخ الانقسام وتجنيد التأييد والتحريض بكل الوسائل حيث ثبت أن الانقسام الطائفي هو الوسيلة الأنجع، جرى سابقاً ويجري الآن العمل على إبقائها قريبة من خطاب الشارع السوري وتحالفاته وإطارات انتمائه سواء بطريقة عفوية أو مفتعلة، فالتغييب الممنهج للحراك السياسي ولّد كل مقومات العودة إلى المكونات الاجتماعية الضيقة الطائفية وغيرها، وجرى العمل على ترسيخ الاعتبارات الطائفية وتقوية رموزها عوضاً عن محاربتهم كما ينبغي في ظل دولة «علمانية مؤسساتية»، وكذلك أتاح كبت البدائل سير هذه العملية بشكل تلقائي، وينسجم هذا العمل المدروس ونتائجه العفوية اللاحقة مع مصالح كل من يرغب بلجم الوعي السياسي وإبقاء الشارع السوري مرتهناً للرؤية الضبابية القائمة على الفرز الطائفي وغيره كوسيلة لإبعاده عن الاستهداف الصحيح لناهبيه وأعدائه محلياً وعالمياً ومنع التحالفات الشعبية الحقيقية، وتحويل فورات الاحتقان الاجتماعي بعيداً عن الثورية الحقيقية، وتوجيهها باتجاه خدمة الفوضى الخلاقة كمشروع لمنظومات النهب العالمية وعملائها الصغار.

لا تستقيم الثورات إلا بتوحيد الصفوف ورصها على سكة مطالبها الحقيقية الجذرية بعيداً عن الشعارات الطنانة والأصوات العالية الفارغة، وإلا بالسير نحو معرفة أعدائها الحقيقيين وفرزهم فرزاً سليماً قائماً على منع تحويل نار الغضب الشعبي إلى حطب يحترق في مواقد الفاسدين والراكبين جميعاً.. وعليها أن تصيب بنيرانها كل أعدائها بقوة وبتعقل، وأن تقدر على جذب حلفائها الطبيعيين ونبذ كل من يهدف إلى الإضرار بها وأخذها إلى ساحاته الوهمية