ملوك الطوائف والفرز الوهمي
»كلما تتهدد مصالح البرجوازية تلجأ إلى الدين أو القومية«!
يثير موضوع إمكانية تفجر صراع طائفي تخوفاً كبيرا لدى قطاعات جماهيرية واسعة في البلاد، فهل ثمة أرضية موضوعية لهكذا صراع، وما إمكانية إقحام الشعب السوري في دوامة الموت العبثية؟ وهل هناك قوى طائفية في سورية؟
من حيث المبدأ لا توجد ظاهرة اسمها الصراع الطائفي، وكل ما تمظهر بذلك عبر التاريخ الإنساني هو في الجوهر صراع على الثروة، وما هو طائفي هو الشكل الخارجي فقط، أما الطائفية فهي أيديولوجيا ممسوخة لقوى منبوذة اجتماعياً، تريد أن تصنّع التفافاً جماهيرياً حولها باستغلال الجانب الروحي واستثمار دوره في تكوّن الوعي الاجتماعي، فتحاول إحياء العصبيات المختلفة - ومنها الطائفية - من أجل احتواء قطاعات جماهيرية وترتيب توازن القوى لمصلحتها.
في الظرف السوري الراهن، نعتقد أن الطائفية هي المعادل الموضوعي لظاهرة الفساد، ومن هنا فإن مقاربة هذه الظاهرة في نسختها السورية تستوجب أولاً فهم طريقة تمركز وتموضع الرأسمال، مع التذكير بأن الرأسمال «السوري» هو ابن شرعي لنموذج اقتصادي رأسمالي مشوه اصطلح عليه سياسياً بالفساد.
خارطة الفساد «الرأسمالية الحالية في سورية» معقدة بسبب ظروف تاريخية لا مجال لبحثها الآن، ولدى القراءة الأولية نلاحظ واقعياً التصنيف التالي:
- فئة تستمد قوتها من مستوى وطبيعة علاقتها مع النظام، وفي إطار الفرز الاجتماعي المستمر تحولت إلى فئة رجال أعمال في السوق، فامتلكت ثنائية الثروة والهيمنة، واستطاعت من خلال ذلك الضغط إصدار جملة من القوانين والقرارات التي تتناقض مع الدستور، ومع البنية التاريخية للنظام السياسي نفسه، وفرض عليها مستوى تطورها بناء شبكة علاقات إقليمية ودولية على قاعدة تقاطع المصالح المالية المباشرة.
- فئة من البرجوازية التقليدية التي تضررت مصالحها تاريخياً جراء التغيير النسبي في طرائق توزيع الثروة، بعد مرحلة التأميمات.. واستطاعت أن تتعايش مع الظرف الناشئ، وتستمر في عملية تراكم الرأسمال مستفيدة من عدم جذرية التحولات الاجتماعية من جهة، ومن علاقاتها مع البرجوازية البيروقراطية التي شهدت نقلة نوعية، وخصوصاً بعد أحداث 1980من جهة ثانية...
هذه الفئة تنفست الصعداء، بعد تبني ما سمي باقتصاد السوق الاجتماعي، وبنى قسم منها شبكة علاقات جديدة مع الفئة الأولى بعد عملية الفرز الجديدة في جهاز الدولة، والتقطت اللحظة التاريخية محاولة استعادة مواقعها وتقاسم النهب مع البرجوازية الناشئة ضمن دائرة تجاوز الدستور واقتطاع حصة من النهب عن طريق صاحب الجلالة «الفساد»، ودون أن تتخلى يوماً، أو تكف عن علاقتها التاريخية مع قوى السوق العالمية، أو امتداداتها في كازينوهات البترودولار العربي بأساليب مشروعة وغير مشروعة.
ولأن الفساد كان مهيمناً في مختلف مفاصل أجهزة الدولة، فقد طبع المجتمع بطابعه، ونفث سمومه في خلايا المجتمع، وعمل على تلويث الثقافة السائدة باتجاه تفسيدها هي الأخرى، في إطار جدلية العلاقة بين البناء الفوقي والتحتي، فأسس لمزاج طائفي ولو محدود هنا وهناك، في هذا المكان أو ذاك، ولكنه لم يستطع أن يعمم ذلك بحكم الاستقلال النسبي للبناء الفوقي عن البناء التحتي، وبحكم اصطدامه بالثقافة المتوارثة، فالثقافة السائدة في المجتمع السوري هي ثقافة وطنية جامعة منذ تشكيل الدولة السورية الحديثة بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، فالانتماء إلى الوطن كان هو الانتماء الأسمى، ولم يسأل السوريون يوماً عن انتماء يوسف العظمة أو صالح العلي أو سلطان باشا الأطرش أو رمضان شلاش أو فارس الخوري الما قبل وطنية، بقدر النظر إليهم كرموز وطنية سورية.
لقد أثبتت الحركة الشعبية منذ اليوم الأول، أن لا علاقة لها بالطائفية. أليس الشعار الأبرز من بين شعارات المتظاهرين هو «واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد»؟ ألم تكن المظاهرات في مناطق البلاد المختلفة رداً على ما حدث في محافظة درعا من قمع وانتهاك للكرامة؟ ألا نجد التلوينات الطائفية في طرفي الموالاة والمعارضة؟؟؟
إن قوى الفساد الكبرى التي لا يهمها لا طائفة ولا دين ولا وطن بقدر ما تهمها مصالحها وثرواتها، تلجأ وبأساليب خبيثة إلى زرع الفتن لتغييب الصراع الأساسي الدائر في البلاد، وتحويله إلى صراعات مشوهة ومنها الطائفي.
صحيح أنه مع انطلاق الحركة الشعبية المشروعة التي تعتبر في العمق رد فعل على الفساد كونه الأب الروحي للقمع والاستبداد، بتنا نسمع من هنا وهناك زعيقاً طائفياً، يأخذ أشكالا سافرة تارة، وأشكالاً مستترة تارة أخرى، ونجد ممارسات طائفية هنا وهناك، ناتجاً ومترافقاً مع الدفق الإعلامي من فضائيات لها رمزيتها، ومع دخول مراكز دولية وإقليمية ذات بنية طائفية على خط الأزمة، ومع وجود مشروع أمريكي استراتيجي بتفتيت المنطقة، ومع الأخذ بعين الاعتبار استهداف دور سورية الإقليمي تاريخياً.. وعلى الرغم من أن قوى الفساد وكي تنجو بجلدها تبذل المستحيل من أجل التأسيس لصراع طائفي في البلاد، وتستخدم القطاعات الواسعة من المهمشين ليكونوا وقود الحرب العبثية المفترضة، ولكننا لا نعتقد رغم كل ذلك أن ثمة رأياً عاماً سورياً يتقبل مثل هذا المنطق ويتفاعل معه، فلا مصالحه ولا ثقافته ولا قيمه تتوافق مع ذلك، ومن هنا كما أعتقد سر اللجوء إلى التهويل الإعلامي في الحديث عن الفتنة الطائفية لتفرضه على الوعي الاجتماعي.
بقي أن نقول لكل من يريد نسف أي محاولة لإشعال صراع طائفي، إن الطريق إلى ذلك يمر عبر القضاء على الفساد من كل شاكلة ولون وموقع، سواء ذلك الفساد الذي خرج من رحم جهاز الدولة، أو على أطرافه، أو الذي تتبناه مراكز إقليمية ودولية وتسوقه قوى ورموز مستهلكة وتبحث لها عن موقع على أكتاف الحركة الشعبية.