زواج الفساد بالطائفية.. وولادة الموت!
نشأت ظاهرة الطوائف الدينية تاريخياً كخلافات دينية وفقهية في ظاهرها،تعبر في جوهرها عن خلافات سياسية،أي عن خلافات على إدارة المؤسسات التي تتحكم بتوزيع الثروة الاقتصادية بطريقة معينة بين طبقات المجتمع.
ومع مضي الزمن تغير المجتمع في بنيانه التحتي وعلاقات الإنتاج فيه،و لكن العنصر الديني والطائفي في البنيان الفوقي كان أبطأ في التغير،واكتسب قداسة ترسخت في الوعي عبر الأجيال،رغم أنّ أجيال الطوائف نفسها تنوعت طبقياً بحيث بات في عضوية كلّ دين وطائفة شرائح طبقية شديدة التباين والتناقض.
وهكذا فإنّ الظاهرة الطائفية التي فرضتها في مرحلة تاريخية معينة طبيعة علاقات الإنتاج الاقتصادي،وكانت شكلاً يتظاهر من خلاله الصراع الطبقي،بين الطبقات المستغَلّة والمستغِلّة حيناً،وبين شرائح الطبقة المستغِلّة الطامعة في السلطة السياسية أحياناً أخرى،قد تحوّلت فيما بعد إلى ما شهدناه ونشهده في التاريخ من السلوك الطائفي الذي يقوم على التمييز ضدّ أبناء الطوائف الأخرى في مناحٍ اجتماعية مختلفة،على أساس واحد فقط هو الانتماء الديني أو الطائفي.
وفي مرحلة الصعود الثوري التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين،خاضت شعوب البلدان المستعمَرة الصراع مع الاستعمار الإمبريالي،كأحد أشكال التناقض الأساسي (الطبقي)،والذي احتلّ مكان الصدارة في الساحة الاجتماعية،منحّياً جانباً التناقضات الثانوية،بما فيها الطائفية،ومخففاً من حدّتها. وهكذا كانت حركات التحرر الوطني الثورية تضمّ جميع الطوائف والأديان دون استثناء،ويجمعها هدف مشترك أساسي هو تحرير بلدانها من الاستعمار الخارجي وأعوانه.
ثمّ جاءت مرحلة التراجع العام للحركة الثورية العالمية،والتي يؤرخ لها منذ مطلع ستينيات القرن العشرين،توازياً مع تراجع الاتحاد السوفياتي بوصفه القوة العالمية الكبرى التي كانت تقود الحركة الثورية التقدمية في العالم. واستمرت هذه المنارة الاشتراكية لفترة طويلة،حتى ضمن مرحلة خفوتها،بإمداد مجتمعاتنا الثالثية بعناصر الوعي التقدمي،والذي كان يتناسب بوصفه بنياناً فوقياً مع مهمات التحرر الوطني المنتصبة أمام شعوبنا آنذاك. ولكنّ السياسات الخارجية للاتحاد السوفياتي المتراجع بعدئذٍ،ولاسيما منذ الثمانينيات،والتي قامت على تغطية النمو الضعيف للبلدان المتحررة،عبر إمدادها بالمنتوجات السوفييتية المختلفة كشكل من الريع السياسي،دون العمل على إخراجها جدياً من إطار السوق الرأسمالية العالمية، مما كان يتطلب تغيرات سياسية اجتماعية عميقة،أدى إلى ترك تلك البلدان للمصير الذي رسمه لها المعسكر الإمبريالي،وهو السير في طريق التطور الرأسمالي للأطراف في خدمة مصالح المراكز الرأسمالية الكبرى،التي تجعل من الأطراف مجرّد مصدر للثروات الخام،وسوقاً لتصريف السلع الأجنبية،ومن ضمنها السلع الثقافية،المحشوة بقيم الاستهلاك السلبي والأنانية والتفرقة والعنصرية،والتي تراكبت على الإرث المتخلف والرجعي الذي اكتسبته بلادنا عبر قرون من علاقات الإنتاج الإقطاعية تحت الاحتلال العثماني،مما حرم بلداننا من التغيرات التقدمية التي ترافق عادة تطوّر الصناعة الوطنية،ولاسيما توسع الطبقة العاملة كمياً وتطورها نوعياً من جميع النواحي،التقنية والعلمية والاجتماعية والثقافية،وانصهار المنتجين في بوتقة الصلات الإنسانية الجديدة التي عادة ما تتميّز بها البروليتاريا الصناعية،والتي كانت ستضعف كثيراً من القيم الطائفية الرجعية.
يقال إنّ عولمة الليبرالية الجديدة قد حوّلت العالم إلى قرية صغيرة،ولكنّ هذه القرية موضوعة تحت مجهر الفساد الإمبريالي العالمي،ليحدد بسهولة أماكن سكاكين التفرقة العنصرية والعشائرية والدينية والطائفية،التي يقطّع بوساطتها أوصال هذه القرية من أجل التهام خيرات شعوبها،بالتعاون مع الفساد الداخلي التابع له،والمتمثل بالبرجوازية التي تتألف من فصيلتين من الديدان: الطفيلية من خارج جهاز الدولة،والبيروقراطية التي تسلقت على جسم هذا الجهاز وترعرعت على أوراقه السياسية الوطنية،وعندما أدركت ضآلة نهبها بالنسبة للطفيليات،بدأت تترك تلك الأوراق شيئاً فشيئاً،زاحفة نحو الساق لتتطفل على النسغ مباشرة،فشهوة الرأسمال للربح الأعلى هي صفة جينية مشتركة بين الفصيلتين.
وكما في بقية البلدان الثالثية ترعرعت البرجوازية السورية عبر عقود،وازداد نهبها،وشكّلت طبقة فساد كبرى تضمّ في عضويتها عناصر من كلّ الطوائف والأديان والقوميات،وأنشأت تكتلاتها الطائفية والعائلية والعشائرية،وعقدت الصفقات،العلنية منها والسرية،بهدف النهب المشترك وتحاصص ثروة الشعب السوري،التي يصنعها منتجوه الكادحون. ومن أجل تمرير مصالحها الأنانية،لم تتوانَ طبقة الفساد هذه عن اتباع أخطر وأقذر الأساليب لإجهاض أيّة محاولة ترمي إلى محاسبتها وإعادة ما نهبته إلى ملكية الشعب المنتِج،فعملت بهدوء وعبر سنين طويلة على تغذية بؤر التوتر والصراعات الثانوية في المجتمع السوري،ولاسيما الطائفية،فعملت على تغذيتها مالياً وثقافياً،وعبر جمعيات دينية مختلفة،تحت ستار مؤسسات المجتمع المدني،والمؤسسات الخيرية،التي طالما كان الكثير منها أدوات هامّة ومضلّلة بأيدي الفساد الطفيلي،وحظي الكثير منها برعاية الفساد البيروقراطي في جهاز الدولة،والذي قام،عن تهاون أو عن عمد،بالتغاضي عن منابعها ومصادر تمويلها،المعروف ارتباط معظمها بالصناديق الإمبريالية والصهيونية العالمية.
إنّ الفساد الداخلي موحّد طبقياً،رغم أنّ له أذرعاً متعددة الطوائف،وهو بارتباطه العضوي والوظيفي بالفساد الإمبريالي-الصهيوني ، وبالمخطط الأمريكي لـ«الفوضى الخلاقة» الرجعية،المعدّة لإجهاض الثورات التقدمية،يعتبر هو المسؤول عما نشهده اليوم من إدماء واستنزاف لوطننا وشعبنا.
لكنّنا سنظلّ محكومين بأمل أن تنقشع جميع الغمامات السوداء الطائفية،والاختلافات الثانوية الأخرى،عن أعين جميع السوريين الوطنيين الشرفاء،ليدركوا أنّه لا فرق بين «العَرْعَرة» و«الدَرْدَرة»؛ لا فرق بين الأذناب اللاهثة طلباً لتدخل العدو الإمبريالي-الصهيوني في سورية سياسياً أو عسكرياً،وبين الليبراليين المخربين والمفسدين للاقتصاد الوطني،الذين أدخلوا العدو نفسه ،لكن من بوابة الاقتصاد. مثلما أنّه لا يوجد فرق بين أن يبعث أحد أدعياء الوطنية من أمراء الفساد والخصخصة داخل سورية برسائل علنية مشبوهة إلى إسرائيل الصهيونية،وبين أن يقوم منبر آخر خارج سورية،يدعي الوطنية أيضاً،بالتحريض على ذبح الطوائف الأخرى،والشتم ليل نهار بحركات المقاومة،ويصف بـالـ «قتلى» الشهداءَ الأبطال الذين سقطوا برصاص العدو الصهيوني في يومي الزحف بذكرى النكبة وذكرى النكسة،مضحّين بدمائهم الطاهرة على تراب الجولان السوري المحتلّ،ليعلنوا أنّه حانت اللحظة المناسبة،وربما الوحيدة التي لن تتكرر،لخوض معركة الشرق العظيم الوطنية والإقليمية الكبرى من أجل إنجاز مهمتين متلازمتين لا تنفصلان،ولا تتمّ إحداهما دون الأخرى:
تحرير الأراضي المحتلة من الاحتلال الإمبريالي-الصهيوني بالمقاومة الشعبية المسلحة،والقضاء على الفساد والرأسمالية بتحوّل جذري نحو الاشتراكية التي ستبقى هي الحلّ الوحيد بكلّ تأكيد!