الأزمة الاقتصادية قبيل وقوعها.. لا مجال للحل الأمني أو الحلول السياسية «الرخوة»

تتضاعف البسطات اليوم فارشة الأرصفة السورية.. ووتتضاعف معها أعداد روادها ومستهلكيها، وتقل كثيراً الحركة القليلة أصلاً لزوار الأسواق الكبرى بوكالاتها ومولاتها ومحالها الصغرى.. تتعطل في حركة واسعة نسبياً قطاعات بكاملها فاتحة على تعطيلات واسعة أخرى.. يتذمر التجار والصناعيون والمستهلكون.. وكذلك أصحاب الودائع الكبرى، المستثمرون، ورواد المصارف..
الكل يرى الشلل ويعرف العلل، على الرغم من المحاولات  لطمس معالم التدهور،  إلا أن سير الأمور الحالي يوضح معالم الانكماش الاقتصادي الواسع، المترافق مع تضخم كبير في الأسعار، وتدهور قيمة الليرة السورية كمؤشر لهذا وذاك. تأتي ضرورة البحث في المؤشرات من مدى عمق تعلقها بمآل الحراك السياسي في سورية ودور الوضع الاقتصادي المفصلي في تكون التحالفات والاصطفافات.

بداية معالم الانكماش الاقتصادي
 ليس بالجديد غياب الأرقام والمعطيات الاقتصادية  الرسمية، الدقيقة واليومية، وتحديداً في فترات الأزمات، حيث تصل المصداقية والشفافية إلى ما يقارب الصفر، ويكون التضارب بالتصريحات والعشوائية سيد الموقف.. وهو ما يظهر في الأزمة الحالية، حيث  تبقى لنا المعلومات المعتمدة على الشارع والمنشآت والمؤشرات العامة، وهي ما تتوارد بكثافة بما يؤشر إلى دخول السوق السورية بحالة انكماش واسعة.. فمن تعطل قطاعات اقتصادية بشكل شبه كامل كالسياحة مثلاً، وخروج أو إيقاف مؤقت لمشاريع كبرى واستثمارات خارجية تعمل في السوق السورية، وتباطؤ كبير في نشاط قطاع التجارة الخارجية استيراداً وتصديراً،  إلى معامل محلية تتوقف، أو تقلل من ورديات عملها، ما ينتج عنه بشكل أساسي تسريحات واسعة للعمال في القطاع الخاص، توقف الأجور، وإجازات قسرية للعمال بلا راتب، وهو الواقع المتأزم الذي يبدو أنه اضطر الجهات المسؤولة إلى إفراز رقم رسمي..
فقد صرحت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، عن تسريح حوالي 41 ألف عامل في القطاع الخاص من المسجلين في الشؤون الاجتماعية، يتركزون في ريف دمشق، ودمشق وحلب بأوسع النسب، مع العلم أن الرقم الفعلي قد يتجاوز هذا الرقم بكثير لأن أغلب عمال القطاع الخاص في الورش والمنشآت الصغيرة غير مسجلين في الشؤون الاجتماعية. الانكماش الاقتصادي الذي يشكل العامل الرئيسي لضعف الليرة السورية وتراجعها، الذي يثير ما يثير اليوم من بلبلة، ويدفع إلى حركة  أخذت إجراءات لكبحها مؤقتاً، وهي عمليات التحويل للعملات الأخرى، وعمليات إخراج الأموال من المصارف، إلا أن أهم ما يترتب عليه تراجع الليرة، هو حالة ضعف القدرة الشرائية، والتضخم الكبير في الأسعار، وهو ما يظهر مع زيادة أسعار السلع الغذائية.
 
الأسعار والأجور

 ومن هنا فإن تباطؤ النشاط الاقتصادي قد لا ينتج انخفاضاً في أسعار المنتجات، أو قد ينتج انخفاضاً نسبياً، قياساً بالتراجع الواسع في القدرة الشرائية الناتج عن تضخم في جميع الكلف باستثناء الأجور، المتراجعة بشكل مطلق ونسبي، أي متراجعة كمياً بنتيجة عمليات التسريح الواسعة وعدم قدرة الاقتصاد على خلق فرص العمل، وستتراجع نسبياً ، كونها (أي أجور العمال) الجانب الذي سينال الحصة الأكبر من محاولات تخفيض الكلف، نظراً لإمكانية الضغط على العمال مع وجود البطالة الواسعة.

الدولة وإيراداتها
 في ظل السيناريو الحالي من نشاط اقتصادي متوقف، أسعار وكلف متضخمة، مقابل أجور منخفضة وبطالة واسعة، وليرة متدهورة، هذا الوضع الذي يشكل سلسلة غير قابلة للخرق بحاجة إلى دفعة قوية تعيد تحريك مولد الاقتصاد الوطني، وتبدو الدولة هي المنقذ في هذه الحال.. ولكن نظرة على اقتصاديات الدولة، والإجراءات المتبعة تدل بداية على غياب الإجراءات الجوهرية المتناسبة مع أزمة تتجه بهذا الاتجاه. فالمؤكد أن الدولة قد زادت نفقاتها حتى الآن خلال الأشهر الماضية، فمن زيادة الرواتب التي طالت موظفي الدولة، إلى تخفيض أسعار المازوت، بالإضافة للرقم غير القابل للتقدير، وهو مصاريف الدولة الاستثنائية في هذه المرحلة على تحركات الجيش والأجهزة الأمنية والذي يندرج في ميزانية وزارة الدفاع. المصروفات السابقة قد تستطيع الموازنة تغطيتها على الرغم من  العجز، إلا أن المشكلة تكمن في استمرار منهجية الإنفاق الواسع المباشر، التي ستتعارض حكماً مع اتجاه إيرادات الدولة إلى الانخفاض، سواء الإيرادات الضريبية أو الرسوم الجمركية، أو فوائض القطاع العام الاقتصادي، أي أن قدرة الحكومة على الحركة في مجال الضخ المباشر قليلة لأن هذا الإجراء يحمل النتائج التضخمية نفسها في حال عدم قدرته على توليد النشاط الاقتصادي.
لذلك من الأجدى أن تلجأ الحكومة إلى الضخ الفعال والتحريك الحقيقي في أماكن جوهرية ذات تشابكات فرعية واسعة، عوضاً عن الإنفاق الاستهلاكي أو الجزئي العشوائي، الذي سرعان ما يمتصه التضخم «كزيادة الأجور»، ويساهم من جديد في تعميق الركود.
ومن المؤكد أن البحث عن مصادر غير مطروقة سابقاً كموارد الفساد المنهوبة، والاعتماد عليها في عمليات الإنعاش المدروسة المطلوبة، سيحمل عائدية اقتصادية اجتماعية سياسية عالية، ويمنع حدوث الاحتمالات المخيفة لتحالفات سياسية واسعة للفاسدين، وتهريب الأموال المنهوبة. قد يقول البعض إن الوضع لم يتدهور إلى الحد الموصوف إلا أننا نقول إن التعامي أو التباطؤ في استشراف الواقع الاقتصادي الحالي خطير جداً، لأن دراسة متغيراته إحدى أهم المحددات التي قد تغير واقع الحراك السياسي في سورية، وتعيد ترتيب الأولويات والتحالفات..
 
الاقتصاد سياسياً

التعطل الاقتصادي وتراجع إيرادات الدولة.. التضخم الذي سيطال الأسعار كافةً حتى أسعار السلع الغذائية هو واقع جديد يعمق الظروف الموضوعية للاحتقان الاجتماعي ويزيد الفرز وضوحاً، وينتج عنه إعادة ترتيب للتحالفات الطبقية في الواقع السوري.
فمن جهة ضغط حاجة الدولة  إلى الموارد، وبحثها عن موارد بديلة، ومن جهة أخرى تراجع فائدة الاستثمار في الاقتصاد السوري وتراجع قيمة الليرة، سيدفع أصحاب الثروات المنهوبة إلى الهرب بأموالهم إلى الخارج، وما يترتب عليهم من تحالفات اضطرارية حماية لثرواتهم التي قد تهدد بالتجميد، وتدفع نحو مزيد من الارتهان الاقتصادي ونقله إلى المستوى السياسي، وهو ما يتيح المجال لاتساع الاختراقات في جهاز الدولة. بالمقابل تدهور المستوى المعيشي للفئات المنتجة من عاملين بأجر في كل القطاعات الخاصة والعامة، إلى فلاحين، وأصحاب الورش والحرف، يشكل العامل الحاسم في تعميق الحراك الشعبي كماً ونوعاً، وتوجيهه نحو تحالفات قائمة على الترابط بين مصالح الفئات الدنيا، وقد تكون قادرة على لجم الصدوع الموجودة والمفتعلة، وتوحيد الشارع والحراك السياسي للضغط نحو الجذرية في التعامل مع مصالح الناس ومطالبها، متيحاً إزالة  العفن المتسلق على مطالب الناس ودمائها، ويضع أصحاب الحل الأمني أو حتى الحل السياسي المتراخي، أمام واقع جديد لا يستطيعون إلا التعامل معه بجدية ووطنية عالية.. وإلا..