«إبستين» من الجناية إلى السياسة... عروشٌ تهتزّ وأسوارٌ تتساقط!
لم يعد الحديث عن قضية جيفري إبستين ترفاً صحفياً أو فضولاً يتغذّى على الفضائح، بل صار ضرورة، لأن هذه القصة خرجت اليوم من إطارها الضيق كملف قانوني أو جنائي أخلاقي، ودخلت بقوة إلى ميدان السياسة والصراع على النفوذ. فما كان في الماضي يُنظر إليه كجريمة مروّعة لرجل ثري يستغل قاصرات، تحوّل اليوم إلى سلاح يتبادله خصوم كبار على طاولة النزاعات الداخلية في الولايات المتحدة، حيث تتشابك الخيوط بين المال والسلطة والجريمة، وينكشف أن النخب التي طالما قدّمت نفسها كرمز للقيم والمبادئ، ليست سوى أطراف في شبكة معقّدة من الفساد عبر المصالح والتواطؤات. ومن هنا، فإن الحديث بمثل هذه الملفات هو مهم الآن، لا لكشف ما جرى فقط، بل لفهم ما تكشفه لنا عن عمق الانحطاط الذي ينهش جسد الغرب.
الرؤوس الثقيلة تحت المجهر!
في صيف عام 2019، وجد الملياردير الأمريكي جيفري إبستين نفسه خلف قضبان زنزانة باردة في انتظار محاكمته بتهم الاتجار الجنسي بقاصرات. لم تكن تلك الليلة سوى الفصل الأخير في حكاية رجل نسج على مدى عقود شبكة مظلمة من الاستغلال والانحراف، محميّة بنفوذ المال والعلاقات الواسعة. أُوقف إبستين لاحقاً في مطار نيوجيرسي بطائرته الخاصة، بعد سنوات طويلة من الشائعات والتحقيقات السرية. لكن نهاية إبستين لم تكن داخل قاعة محكمة؛ فقد عُثر عليه ميتاً في زنزانته بظروف غامضة اعتُبرت رسمياً انتحاراً، لتُغلق بذلك فصول قصته الجنائية وتبدأ قصة أخرى أكثر تعقيداً وتأثيراً...
ومن جديد، تكشّفت خيوط فضيحة إبستين لتطال أسماء من العيار الثقيل في عالم السياسة والمال، حتى بدت وكأنها مرآة عاكسة لفساد النخبة الحاكمة. فجأة أصبحت وجوه اعتادت الظهور بمظهر الوقار تحت دائرة الشبهات. على سبيل المثال، برز اسم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون ضمن قائمة معارف إبستين المقربين.
وطالت القائمة، الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، ومع هذا الأخير بدا المشهد أكثر تعقيداً. لكن وبعيداً عن التفاصيل بين الرجلين، فقد أصبحت علاقة ترامب بإبستين مادة دسمة لمنتقديه الذين رأوا فيها دليلاً على وجود تداخل غريب بين السلطة والفساد الأخلاقي في أروقة الحكم، وسنعود لهذا لاحقاً.
أما في بريطانيا، اهتزّت سمعة العائلة المالكة إثر انكشاف صداقة الأمير أندرو (نجل الملكة إليزابيث الثانية) بإبستين. كذلك، لم تسلم أسرة كينيدي الأمريكية العريقة من شرر هذه الفضيحة. فقد تبيّن أن روبرت كينيدي الابن – ابن شقيق الرئيس الراحل جون كينيدي – كان ضمن دائرة معارف إبستين.
من فضيحة جنائية إلى سلاح في معركة سياسية
بعد موت إبستين، ربما ظنّ البعض أن الملف سيُغلق للأبد وتستريح الكثير من الأسماء الثقيلة من صداع هذه القضية. لكن العكس تماماً هو ما حدث؛ فقد خرجت قضية إبستين من إطارها الجنائي الأخلاقي الضيق لتدخل ميدان الصراع السياسي المفتوح في الولايات المتحدة. أصبحت الفضيحة بمثابة ورقة تُشهَر في وجه الخصوم، وسلاحاً يستخدمه كل فريق لتصفية حساباته مع الآخر في مشهد أشبه بحرب فضائح لا هوادة فيها.
على جانب، تبنّت فئة من أنصار نظرية المؤامرة اليمينيين-مثل أتباع حركة «كيو أنون»- سردية مفادها أن هناك شبكة عالمية من نخبة الأثرياء المتحرشين بالأطفال تدير العالم من وراء الستار، وأن إبستين ليس سوى واجهة انكشفت بالصدفة. روّج هؤلاء لفكرة قائمة سرية لعملاء إبستين النافذين وطالبوا بنشرها زاعمين أنها تضم أسماء شخصيات عليا سيتم فضحها. وقد استغل بعض السياسيين المحافظين هذه المزاعم لمهاجمة خصومهم الليبراليين، فأشاروا مثلاً بأصابع الاتهام إلى بيل كلينتون وآخرين في الحزب الديمقراطي باعتبارهم جزءاً من تلك الشبكة الخفية.
على الجانب الآخر، وجد خصوم ترامب والداعمون للحزب الديمقراطي في قضية إبستين فرصة سانحة لتأليب الرأي العام ضد الرئيس ومحيطه. فمع ارتفاع أصوات داخل القاعدة اليمينية نفسها تتهم إدارة ترامب بالتستّر على «ملفات إبستين» وعدم كشف الحقيقة كاملة، بدأ سياسيون ديمقراطيون يحرّضون على مزيد من الشفافية. قال الزعيم الديمقراطي حكيم جيفريز في إحدى التصريحات: «الشعب الأمريكي يستحق معرفة الحقيقة الكاملة غير المنقوصة بشأن هذه القضية المخزية برمتها»، منتقداً من أسماهم «متطرفي جناح ترامب الذين أثاروا نظريات المؤامرة حول إبستين ثم ها هم يتجرعون تداعياتها الآن». وفي الكونغرس، طرح نواب ديمقراطيون تعديلات قانونية تجبر وزارة العدل على نشر كل ملفات إبستين خلال 30 يوماً، في محاولة لإحراج الجمهوريين ووضعهم أمام امتحان الشفافية.
وهكذا، تحوّلت قضية إبستين إلى كرة نار سياسية تتقاذفها الأطراف المتخاصمة في واشنطن. الجمهوريون المناصرون لترامب وجدوا أنفسهم في موقف دفاعي حرج: فمن جهة يريدون إرضاء قاعدتهم الغاضبة المطالِبة بكشف المستور، ومن جهة أخرى يخشون أن يؤدي النبش العميق في القضية إلى انكشاف تورط شخصيات مقربة منهم. وقد شهدنا بالفعل سجالات علنية غير معهودة: انقسامات داخل المعسكر المحافظ واتهامات متبادلة بالتستر على متورطين، وحتى دعوات من بعضهم لتعيين مدعٍ خاص يحقق في تقاعس وزارة العدل خشية وجود «حماية لكبار الشخصيات» وراء الكواليس. بالمقابل، يبتهج الديمقراطيون برؤية خصومهم يتخبطون في هذا المستنقع، معتبرين أن «الدجاجات عادت أخيراً إلى قنّها» – في استعارة ساخرة إلى أن من أشعل نار المؤامرات سيكتوي بلهيبها في النهاية.
مرآة الانحطاط الغربي وسقوط الهيبة الأخلاقية
وفي خضم كل تلك التفاصيل المثيرة والاشتباكات السياسية، يبرز بُعد أعمق لقضية إبستين يتجاوز شخصه ويطرح تساؤلاً جوهرياً: ماذا تخبرنا هذه الفضيحة عن الحالة الأخلاقية والسياسية للمجتمعات الغربية الحديثة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية؟
لطالما تباهت الولايات المتحدة بـ «قيَمها» و«مبادئها» أمام العالم، مصوّرة نفسها منارة للديمقراطية وحقوق الإنسان. غير أن فضيحة إبستين جاءت كصفعة مدوّية على هذا الوجه اللامع؛ إذ كشفت أن الانحلال الأخلاقي يستشري حتى في قلب الإمبراطورية التي تدّعي قيادة العالم الحر. فهي فضيحة أظهرت وجود شريحة من النخبة الغربية تعيش بمنأى عن القانون والقيم: رجال سياسة وأعمال بارزون ينغمسون في أفعال شائنة ثم يستخدمون سطوتهم للتهرب من المحاسبة. أي إنها نخبة «مفلسة أخلاقياً» مهما ارتدت من بدلات أنيقة وتزيّنت بخطابات مثالية.
وقضية إبستين ليست حادثة منفصلة، بل مؤشر ضمن سلسلة مؤشرات على تراجع منظومة القيم في الغرب وتصدّع أسس الثقة بسلطاته. كيف لا والعالم شاهد بأم العين رئيس دولة سابقاً وصناع قرار وأفراداً من عائلات مالكة عريقة يجمعهم اسم رجل واحد ارتبط اسمه بالعار؟ فهذا التشابك المريب بين السلطة والمال والجريمة يمثّل علامة على تصدع داخلي خطير وبلغ مستوى عالياً يترك سؤالاً ومؤشراً من مدرسة التاريخ، فإذا كان التاريخ يعلمنا شيئاً في هذا الإطار، فهو أن إمبراطوريات عديدة بدأت أفولها من هذه اللحظات بالضبط، أي لحظة الانهيار الأخلاقي الداخلي، حين باتت النخب فيها غارقة في الفساد والملذات غير عابئة بمعاناة الضعفاء...