المفاوضات الأمريكية-الروسية حول أوكرانيا: هل تفرض روسيا شروطها؟
تشهد المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا حول الحرب في أوكرانيا تطورات سريعة منذ بداية العام الجاري (2025)، وتسارعت أكثر خلال الأسبوع الماضي، مع الإعلان والتمهيد لقمة بوتين-ترامب في ألاسكا المقررة في 15 آب 2025، والتي قد تحدد إطاراً لإنهاء الحرب، التي يبدو أنها تقترب من أن تضع أوزارها، وسط مخاوف أوروبية من اتفاق يتجاهل كييف، وأحاديث وتصريحات تشير إلى القبول بعدد من المطالب الروسية، مثل الاعتراف الفعلي ببعض المكاسب في الأراضي لصالح روسيا مقابل وقف إطلاق نار.
بدأت المفاوضات في كانون الثاني 2025 بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة، وشملت جولات في الرياض وجدة، مع تركيز على هدنة مؤقتة لمدة 30 يوماً في آذار، ومناقشات حول تبادل أراضٍ وإزالة عقوبات. ومع ذلك، يرفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أي تنازلات عن الأراضي.
قمة ألاسكا بين بوتين وترامب
في قمة ألاسكا المزمع عقدها في 15 آب الجاري، سيلتقي ترامب وبوتين لأول مرة منذ 2018. ومع أنّ ترامب وصف اللقاء بـ«الاستكشافي»، لقياس استعداد بوتين للتنازلات، مع مناقشة محتملة لـ«تبادل أراضٍ» ووقف إطلاق نار، لكن من المتوقع في هكذا لقاءات كبيرة أن تظهر فوق الطاولة اتفاقات كان يجري إنضاجها بالفعل مسبقاً وتوضع عليها اللمسات الأخيرة قبل إعلانها.
ويصرّ بوتين على أن أي اتفاق يجب أن يشمل حياد أوكرانيا والحدّ من قواتها، مع رفض أي تنازل عن أهدافه الأساسية مثل منع انضمام أوكرانيا إلى الناتو.
التطورات العسكرية
عسكرياً، تواصل روسيا تقدماً بطيئاً لكنه مستمر في شرق أوكرانيا، خاصة قرب بوكروفسك ودونيتسك، حيث سيطرت على مناطق إضافية في آب 2025، بينما تواجه أوكرانيا خسائر كبيرة في المقاتلين والمعدّات والبنية التحتية، مع انخفاض الدعم الغربي، مما أدى إلى تراجع في بعض الجبهات.
في تموز 2025، حققت روسيا مكاسب بنسبة 1% من أراضي أوكرانيا، وتحدثت بعض المصادر بأنّ التكلفة البشرية على روسيا مقابل ذلك كانت نحو 250 ألف إصابة، كما أدت هجمات أوكرانية بطائرات مسيرة إلى بعض الأضرار في البنية التحتية الروسية، لكنها لم تستطع أن تمنع التقدم الروسي المستمرّ.
وبالحديث عن الأرقام الإجمالية منذ بداية الحرب حتى الآن، إذا تمّ الاقتصار على التقارير الغربية والأوكرانية قد يحصل المرء على صورة تبدو معاكسة للواقع أو مبالغاً بها، حيث تتحدث مثلاً عن أنّه منذ بداية الحرب حتى الآن لم تتجاوز الخسائر البشرية العسكرية لدى الجانب الأوكراني 400 ألف بين قتيل وجريح، في حين تضع رقماً يفوق المليون بين قتيل وجريح كخسائر بشرية عسكرية روسية. وأكثر التقارير التي تحاول إظهار الحياد تتحدّث عن خسائر متساوية للطرفين (قرابة المليون من كل طرف).
بالمقابل تركز تقارير التقديرات الرسمية الروسية على الخسائر الأوكرانية الكبيرة، حيث وفقاً لهذه المصادر، بلغت الخسائر الأوكرانية الإجمالية أكثر من مليون بين قتيل وجريح منذ بداية الحرب، بما في ذلك 300,000 في عام 2025 وحده، حيث انكمشت القوات الأوكرانية بأكثر من 200,000 فرد في النصف الأول من 2025 بسبب الخسائر القتالية والفرار. وتشمل الخسائر أيضاً مرتزقة أجانب ومقاتلين من الناتو.
أما الخسائر الروسية، فلم تنشر أرقاماً رسمية جديدة منذ 2022، لكن المصادر الروسية تقول إنها أقل بكثير مقارنة بالأوكرانية، مع التركيز على المكاسب الروسية في الاستحواذ على الأراضي التي تجاوزت 150 بلدة منذ بداية العام الجاري (2025).
وهذه الأرقام تعكس، وفقاً للمصادر الروسية، وحتى وفق بعض المحللين العسكريين الغربيين أيضاً، تفوقاً عسكرياً روسياً وخسائر باهظة للجانب الأوكراني رغم الدعم الغربي الضخم له.
تصريحات غربيّة توحي بتنازلات لروسيا
أدلت شخصيات غربية بارزة، بما في ذلك مسؤولون أمريكيون وأوروبيون ومن الناتو، بتصريحات تشير إلى استعداد محتمل لتقديم تنازلات لروسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا، مع التركيز على مفاهيم مثل «تبادل الأراضي» أو «التجميد الفعلي» لخطوط القتال الأمامية أو خطوط التماس، رغم الرفض الصريح من بعض الأطراف لأي تنازلات إقليمية دون ضمانات أمنية قوية. على الجانب الأمريكي، أكد الرئيس دونالد ترامب في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض يوم الإثنين 11 آب 2025 أنّ كلا الجانبين يجب أن يتخليا عن بعض الأراضي، قائلاً: «سيكون هناك بعض تبادل الأراضي»، مشيراً إلى أن روسيا «احتلتْ أراضيَ قيمةً جداً» مثل المناطق الساحلية، لكنه أضاف أن الولايات المتحدة ستسعى لاستعادة بعض هذه الأراضي لأوكرانيا، مع الإشارة إلى أن الاتفاق سيشمل «أموراً جيدة وأخرى سيئة» لكلا الجانبين.
كما وصف ترامب اللقاء مع بوتين بأنه سيكون «استكشافياً» لقياس استعداد الروس للتنازلات، مع احتمال مناقشة «تغيير خطوط المعركة».
ودعم هذا النهج السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي قال إن «أوكرانيا لن تطرد كل الروس، وروسيا لن تصل إلى كييف، لذا سيكون هناك تبادل أراضٍ في النهاية»، مشيراً إلى أن الواقع على الأرض يفرض مثل هذه الحلول.
أما الجنرال المتقاعد كيث كيلوغ، مبعوث ترامب الخاص إلى أوكرانيا، فقد اقترح خطة تشمل منطقة منزوعة السلاح وانضمام أوكرانيا إلى الناتو، لكنه أكد أن «أوكرانيا لن تُقبل في الناتو»، مما يلبّي إحدى مطالب بوتين الرئيسية.
من جانب الناتو، أشار الأمين العام مارك روته إلى إمكانية «الاعتراف الفعلي» (de facto) بالسيطرة الروسية على بعض الأراضي الأوكرانية دون الاعتراف القانوني (de jure)، مقارناً ذلك بحالة دول البلطيق تحت السيطرة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية، وقال: «قد تكون هناك حالة واقعية حيث يحتلون أجزاء من أوكرانيا، لكننا لا يمكن أن نقبل ذلك قانونياً»، مع التأكيد على أن أي مناقشات مستقبلية يجب أن تكون بقرار أوكراني.
وفي سياق أمريكي آخر، قال نائب الرئيس جي دي فانس إنّ «كلاً من الجانبين الروسي والأوكراني سيكونان غير راضيَين في النهاية» عن أيّ اتفاق تفاوضي، مشيراً إلى ضرورة ترتيبات لجدولة لقاءات بين القادة لإنهاء الصراع.
أما السفير الأمريكي لدى الناتو ماثيو ويتيكر، فقد استخدم تعبير أنّ الولايات المتحدة لديها القدرة على «إجبار» روسيا على «التفاوض الجاد»، لكنه شدد على أنّ أي اتفاق يجب أن يشمل جميع الأطراف، قائلاً: «لا يمكن أن يكون هناك اتفاق لا يوافق عليه كل المعنيين»، مع الإشارة إلى إمكانية دعوة زيلينسكي إلى القمة إذا رأى ترامب ذلك مناسباً. بينما كان زيلينسكي قد أعرب عن «غضبه» لأنه غير مدعو إلى لقاء ألاسكا.
وظهرت دعوات أوروبية لزيادة الضغط على روسيا قبل القمة، وأشارت تقارير إلى أن أوكرانيا قد توافق على تجميد الجبهات الحالية كجزء من خطة مدعومة من الاتحاد الأوروبي، مقابل ضمانات أمنية وانضمام إلى الاتحاد، حيث نُقِلَ عن مسؤول غربي لم يُذكر اسمه قوله: «الخطة يمكن أن تتعلّق فقط بالمواقع الحالية للقوات»، مع الإشارة إلى أن «الخط التماس الحالي يجب أن يكون نقطة البداية للمفاوضات».
ومع ذلك، حذرت قيادات أوروبية مثل رئيسة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس من أنّه «لا يجب مناقشة أي تنازلات حتى توافق روسيا على وقف إطلاق نار غير مشروط كامل»، مشددة على أهمية «الترتيب الزمني للخطوات: أولاً وقف إطلاق نار غير مشروط مع نظام مراقبة قوي وضمانات أمنية حديدية» بحسب تعبيرها.
كما أصدر قادة من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبولندا والمملكة المتحدة ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بياناً مشتركاً يشدد على «الحاجة إلى ضمانات أمنية قوية وموثوقة تمكن أوكرانيا من الدفاع عن سيادتها وسلامتها الإقليمية»، مع الإشارة إلى أن «الطريق إلى السلام في أوكرانيا لا يمكن أن يُقرر دون أوكرانيا».
وفي السياق نفسه، حذّر المستشار الألماني فريدريش ميرز: «لا يمكننا قبول المناقشة أو إقرار قضايا إقليمية بين روسيا وأمريكا فوق رؤوس الأوروبيين والأوكرانيين»، معبراً عن افتراض أنّ الحكومة الأمريكية «تشاركه الرأي».
أما رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، فقد أكد أنه «بالنسبة لبولندا وشركائنا، من الواضح أن حدود الدول لا يمكن تغييرها بالقوة».
وانضم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى هذا الخط، قائلاً: «مستقبل أوكرانيا لا يمكن أن يُقرر دون الأوكرانيين، الذين يقاتلون من أجل حريتهم وأمنهم منذ أكثر من ثلاث سنوات».
هذه التصريحات تعكس مخاوف أوروبية عميقة من أن ترامب قد يقبل بتنازلات عن أراضٍ لروسيا مقابل تعاون في قضايا أخرى مثل إيران أو الصين، مما يضعف أوكرانيا ويخلق مشكلات أمنية لأوروبا، وهو أمرٌ قد تنظر إليه واشنطن كإصابة «عصفورين بحجر واحد»: التملص من عبء الحرب في أوكرانيا، وإضعاف أوروبا ومحاولة التمهيد لأرضية صراعات إضافية بين روسيا وأوروبا. مع ذلك فإنّ ما لن يكون قابلاً لإخفائه عمّا قريب هو أنّ «الغرب الجماعي» قد مُني بهزيمة استراتيجية في هذه المعركة.