الواقع أم الظاهر من الأشياء؟
يُصادف، في معرض السجالات السياسية التي تفرض نفسها على الحياة الاجتماعية السورية، أن يتم الرد على من يدعو للحوار والحل السياسي، بوصفهما الطريق الوحيد نحو المخرج الآمن من الأزمة السورية، بدعوةٍ متسرعة للنظر إلى ما تحققه آلة الحرب العسكرية من «انتصارات جزئية» قد تُمهِّد لانتصار أحد الطرفين على الآخر. إن في هذا مثالاً، لا حصراً، من الأمثلة العديدة التي يتم فيها تبني المواقف السياسيَّة انطلاقاً من قراءة مُجتَزأة بعيدةٌ كلّ البعد عن الواقع، وقريبة تمام الاقتراب من ظواهر الأمور التي لطالما عكست صوراً مزيفة عن الحقيقة الموضوعية.
المتحاربون وعقدة الواقع:
لعقودٍ طويلة، خنقت قوى الفساد والتسلُّط في النظام السوري الحريات السياسيَّة، معتمدةً في ذلك على الأجهزة الأمنية التي كان لها الدور الأبرز في قمع أيّ حراك سياسي يُهدِّد قوى الفساد هذه، الأمر الذي أمّن للأخيرة سيطرةً وسطوةً عالية على جهاز الدولة السوري ظنت أنها سطوة وسيطرة أبدية وبالغت في اطمئنانها، فذهبت حدَّ اللامبالاة بالآثار الكارثية لإجراءاتها الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية على المواطن السوري الذي دفع وحدهُ، على اختلافات انتماءاته، ضريبتها الباهظة الثمن. نظرت قوى الفساد في النظام إلى ظاهر المجتمع السوري الذي كان يعكس، في حينه، صورة الشعب الذي «لم يحرك ساكناً» إزاء تجاوزاتها التي وصلت حدّ تهديد مستقبل الوطن والمواطن، وعليه راهنت على ديمومة استقرار موقعها، ولكن سرعان ما تلاشت هذه الصورة عندما اصطدمت هذه القوى بالواقع غير المرئي، على الأقل ضمن أفق بصرها، والذي أثبت بأن الشعب لم يكن ساكناً يوماً، فالعقود الطويلة التي عاثت فيها فساداً في الوطن حملت في طياتها تراكماتٍ متتالية ما لبثت أن تحولت إلى قوةٍ مادية تجسدت في الحراك الشعبي السلمي، الذي خرج في أسابيعه الأولى حاملاً مطالبه المشروعة في رفض الفساد والقمع والفقر وضمان حرية الرأي والعمل السياسي. في الضفة الأخرى، حاولت «المعارضة» اللاوطنية استثمار حالة الاحتقان الشعبية المناهضة لسياسات قوى الفساد في النظام، لتمرير مشاريعها وأجنداتها الخارجية، فقد أوحت لها صورةُ الأحداث في سورية بأنها قادرة، إذا ما أدركت كيفية الاستثمار الأمثل للثغرات الناشئة في الحراك الشعبي، على تمهيد الطريق للتدخل العسكري الخارجي المُباشر في سورية. ومرةً أخرى، يُعاكس الواقعُ الصورة المرئية، فلم تستطع هذه «المعارضة»، ومَن هم خلفها، التنبؤ بالموقف الروسي-الصيني، الذي رسم في أحد جوانبه ملامح بداية سقوط الواقع الدولي الذي كان للقطب الأمريكي كلمة الفصل فيه من جهة، وإرساء التوازن الدولي الصفري الحالي من جهةٍ أخرى، هذا ما أجبر القوى التي هلَّلت للتدخل العسكري المباشر على الاكتفاء بما يمكن تحصيله من التدخل العسكري غير المباشر. من هنا يمكن استخلاص أن أطراف التناحر في سورية لطالما وقعوا في وهمِ آمالهم، التي حتى عندما يريدون «عقلنتها»، ومقاربتها مع الحقيقة، يقعون في خطأ الخلط ما بين الواقع ونقيضه..
الحقيقة والانقسام في المجتمع:
خلال أشهر الأزمة السورية، عملت قوى الفساد في النظام والمعارضة على تعزيز الانقسام الوهمي في المجتمع السوري، وقد ساهم الخلط ما بين الواقع وعكسه بإحياءِ وتجديد الثنائيات الوهمية، لا سيما ثنائية «معارض- موال»، ففي كثيرٍ من الأحيان، انعكست النظرةُ الآنيةُ لمتغيرٍ جزئي في الأحداث السورية على واقع الاصطفافات ضمن نطاق الثنائيات الوهمية، مما ساعد على استمرار هذه الثنائيات بأدائها لوظيفتها الأساسية المتمثلة في منع الفرز الحقيقي في المجتمع من بلورة نفسه وفرضها على المتغيرات السياسية، فالفرز الحقيقي بين «مُستغِل- مُستغَل» يضرب مصالح قوى الفساد في الطرفين المتناحرين، مما يعيد خلط الأوراق، ويُغيِّر قواعد الصراع الحالي تغييراً جذرياً، وهنا تكمن الضرورة الملحّة التي يجب على القوى الوطنية في كلا الطرفين العمل عليها، وتتمثل هذه الخطوة بالبحث عن سُبل تسريع تبلور هذا الفرز في العملية السياسية. وتزداد ضرورة هذه الخطوة اليوم، فمع الاقتراب من طاولة الحوار السورية، ولاسيما بعد تبدد فرضية «الحسم العسكري» لأي من الطرفين، لم تزل قوى الفساد تنظر إلى ظواهر الأشياء، فتحاول أن تستثمر حالة السخط الشعبي مما تُخلفه الحرب العسكرية في البلاد كي تُمرر حلولها التي تريد، معتقدةً أن الشعب السوري سيتلقف أي حلّ سيُطرح أمامه، متناسيةً الحقيقة المتجلية في أن الأزمة لن تزول إلا بزوال مُسبباتها، هذه المسببات التي تتطلب إزالتها نضالاً لا هوادة فيه ضد الفساد أينما كان، مما سيعيد للفرز الحقيقي ما بين طبقات المجتمع دوره في تحديد ورسم ملامح الصراع المطلوب، صراع الأفكار والبرامج السياسية التي سيكون مدى ضربها لنفوذ قوى الاستغلال أحد أهم معايير تقييمها. مما سبق يمكن استنتاج مغبات وقوع القوى الوطنية في فخ الصورة المُعاكسة للواقع من جهة، وضرورة استغلال وقوع العدو الطبقي، المتمثل بقوى الفساد، في هذا الفخ، في سبيل موقعٍ أفضل في النضال ضد نفوذه من جهةٍ أخرى.