الفراغ الدامي.. ودور الناس..
دخلت الأزمة السورية في الآونة الأخيرة طوراً جديداً أكثر تعقيداً وشمولاً، من ارتفاع منسوب الدماء والخراب نتيجة العنف المتبادل الذي يضرب البلاد بطولها وعرضها، وصولاً إلى الوضع الاقتصادي المتدهور، حيث أصبح تأمين متطلبات المعيشة اليومية من المهمات الصعبة التحقيق. لقد بات واضحاً أن الإعياء الذي أصاب الجسد السوري سيودي به إلى «السكتة القلبية»، ما لم يتم الإسراع بمعالجة الأزمة وفتح شرايين الحل..
بعيداُ عن العنف والوضع الأمني الكارثي، فإن الإطالة بعمر الأزمة قد أدى إلى نتائج لا تقل خطورة عن الصراع المسلح الجاري. تتجلى بغياب الدور التنظيمي لجهاز الدولة، الذي ترافق مع النقص الحاد للسلع الأساسية الضرورية، كالقمح والطحين والمحروقات ومادة الغاز.. ساهم ذلك بزيادة الاضطرابات والفوضى التي من شأنها تعميق التوتر والانقسام في الشارع السوري.
أصحاب السلاح بلا دور..
إن أحد مفرزات الأزمة والعنف الجاري في البلاد كان انتشار حالات الاعتداء على المنشآت والمؤسسات الخدمية، والسرقة في وضح النهار و«البلطجة»، بهدف النيل من أبسط متطلبات الحياة اليومية. فأفران الخبز مثلاً والتي امتدت طوابير الناس أمامها على طول النهار والليل، شهدت الكثير من حالات العنف والبلطجة من اللصوص والمسلحين، كمحافظة الرقة التي سجلت مقتل بعض المواطنين أمام أحد الأفران نتيجة تلك الاعتداءات. ليصبح الحصول على رغيف الخبز مغامرة حقيقية. والغائب الأبرز هو جهاز الدولة، الذي تراجع دوره التنظيمي على حساب دوره في الصراع المسلح تحت راية «التطهير والحسم العسكري». ولم تشكل المعارضة المسلحة حالة البديل عن غياب جهاز الدولة بل على العكس من ذلك، فقد عمقت الانحدار وزادت من خطورته. حيث أن مهمتها المعلنة هي «اسقاط النظام»، أما التفاصيل الأخرى كالخبز والمازوت والوضع المعيشي والأمني والخدمي فليست من برنامجها.. لتساهم على أرض الواقع بتفاقم الأزمة التي تلقي بثقلها على كل السوريين، وليصبح التطبيق الفعلي لتلك المهمة هو«إسقاط البلاد».
تنظموا، ثم تنظموا..
يبقى إذاً المواطن السوري وحيداً في مواجهة المشاكل والأزمات المترتبة على غياب جهاز الدولة الرقابي وتوسع دائرة الفوضى والاضطرابات. وقد تبدو احتياجات الناس اليومية لكثير من سياسيي ومنظري المعارضة والنظام، على أنها أصغر من أن تبحث أمام خلافاتهم الدامية. إلا أنه في ظل تأخر الحل السياسي، يكون المخرج من هذه الدوامة هو بالاعتماد على الذات، أي أنه يجب تفعيل دور المجتمع في الرقابة، بمعنى قيام الناس بتنظيم صفوفهم لتولي مهمات ضبط الأسواق، والتصدي للاختراقات والاعتداءات لحماية مصادر رزقهم وحياتهم. وقد بدأت بالفعل بعض المحاولات الناجحة في هذا الصدد، حيث شكل الأهالي في بعض المناطق لجانهم الشعبية التي اختصت بمراقبة توزيع المازوت والسعي لتأمين مادة الغاز وتنظيم الصفوف على الأفران بالإضافة الى التصدي لتجار الازمات والمخربين، ولجان الناس الشعبية هذه تقطع تماماً مع تجربة اللجان «الشعبية» سيئة الصيت، اللجان التي لم تكن شعبيةً إلا في الاسم.
ينبغي على الناس أن يثقوا بقدراتهم وبقوتهم، فهم إذا ما تنظموا ورصّوا صفوفهم في مواجهة قوى الفساد والعنف، أصبحوا قوةً عظيمة يصعب تدميرها والنيل منها، ولعلهم بذلك يمهدون الطريق لإنهاء الأزمة السورية، ويفتحون الباب أمام الحل السياسي لتجنب المزيد من الآلام والدماء، وللحفاظ على وحدة البلاد وتماسكها.