دروس «الحزم» وإلزامية الحل السياسي
أعلنت قيادة دول التحالف الثلاثاء 21 نيسان 2015، انتهاء عملية «عاصفة الحزم» في اليمن وانطلاق ما أسمتها عملية «إعادة الأمل»هناك. ويأتي ذلك بعد نحو أربعة أسابيع من انطلاق هذا العدوان على الشعب اليمني بقيادة سعودية ودعم أمريكي في 26 آذار 2015.
ويسترعي هذا الحدث التوقف عنده، على ضوء خصوصيته النوعية ليس لأنه آخر الحرائق العالمية التي عملت وستعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إشعالها، بل من حيث أنه أول «حريق» تضطر مكرهة إلى إيقافه باكراً، وتُجبَر فيه على الذهاب إلى تسوية سياسية.
الارتباط مع «النووي الإيراني»؟
لا شكّ بأنّ الخسارة السياسية والاستراتيجية التي مني بها المعسكر الفاشي في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وعلى رأسهم السعودية من مغامرة «الحزم»، رغم القتل والدمار الذي ألحقوه باليمن وشعبه، يمكن اعتبارها أبكر النتائج والانعكاسات المباشرة لنجاح جهود قوى السلام العالمي في التوصل إلى «اتفاق الإطار» في التفاوض حول ملف «النووي الإيراني»، في لوزان السويسرية، وكانت «عاصفة الحزم» قد أطلقت قبل أيام قليلة من الإعلان عن هذا الاتفاق من جانب وزير الخارجية الإيراني الذي كشف عنه في الثاني من نيسان 2015، بمضمون يعترف بحقوق إيران في الاستخدام السلمي للطاقة النووية تحت مراقبة دولية، مع رفع كامل للعقوبات عنها.
ولكن الأمر يتعدى مجرد الارتباط الزمني بين الحدثين، وتأثير الأول في سرعة حدوث الثاني. فالأحرى أنّ كلاً من «الاتفاق النووي الإيراني» ولجم «عاصفة الحزم»، وأيضاً العودة التدريجية للأزمة السورية إلى سكة الحلّ السياسي ومسار جنيف، جميعها تقع ضمن سلسلة مترابطة لم تبدأ مع هذه الأحداث ولن تنتهي عندها، ويمكن اشتقاقها من سبب رئيسي واحد، واعتبارها تمظهرات متنوعة لجوهر واحد يكتنف جميع التطورات المتسارعة لأحداث عالم اليوم، والذي يتمثل في عملية الترجمة السياسية لتبلور التوازن الدولي الجديد الذي تكرّس بإحداثياته الاقتصادية والعسكرية، ولا سيما بعد دخول النظام الرأسمالي العالمي أزمته الكبرى منذ العام 2008.
خارطة الحريق.. هل من جديد؟
قبل نحوعام من الآن رصدت قاسيون في افتتاحية عددها 643 بعنوان «خارطة الحريق» – 2 آذار 2014 ظاهرة: «توسيع مساحة خارطة الحرائق العالمية، لتشمل كلاً من أوكرانيا وفنزويلا، إضافةً إلى المناطق المشتعلة سابقاً، وبينها سورية». ومن المفيد اليوم مع استمرار محاولات الولايات المتحدة الأمريكية لإشعال حرائق جديدة، أن نتذكر ثلاثة نقاط أساسية كبوصلة لأية قراءة علمية لخارطة الحريق، كانت صاغتها الافتتاحية المذكورة، وما زالت صالحة اليوم أيضاً:
أولاً: التوازن الذي تكرس بإحداثياته الاقتصادية والعسكرية، لمّا تتم بعد ترجمته النهائية ضمن الإحداثيات السياسية. فإذا كان الشكل السياسي للتوازن الدولي الذي شغل النصف الثاني من القرن العشرين قد صيغ في «اتفاقية يالطا» على أرضية وصول الحرب العالمية الثانية إلى نهاياتها وانكشاف قوة جميع الأطراف، فإنّ ما يجري حالياً هو صياغة سياسية تدريجية للتوازن الجديد، تتطور بالتزامن مع الحرب الجارية على مساحة الكوكب، والتي لم يُقدَّر لها أن تكون حرباً عالمية تقليدية- مباشرة كسابقاتها، بحكم الردع النووي، والمخاطر الكبرى التي يهدد بها استخدامه.
ثانياً: الحرب العالمية «المصغرة» الجارية، والموزعة على مناطق متعددة من العالم، لا تختلف في جوهرها عن الحربين العالميتين الأولى والثانية. فهي نتاج لأزمة رأسمالية عميقة ومحاولة لحلها عبر الحرب، والاختلاف فقط هو في حجم الأزمة الراهنة، وبالتالي حجم الحرب المطلوبة للخروج منها، حيث يفترض أن تكون حرباً يشترك فيها جدياً العالم كله، وهو أمرٌ غير قابل للتحقيق، لذلك فإنّ الاحتكام إلى الحلول السياسية هو طريقٌ إجباري ووحيد.».
ثالثاً: الأزمة العميقة ذاتها أفرزت حراكاً شعبياً واسعاً على المستوى العالمي، ينتظم ويزداد قوةً يوماً بعد آخر، ما جعل ظهور الوحش الفاشي الجديد ضرورة قصوى، لضرب الحركات الشعبية وتفتيتها وحرفها عن مسارها. حيث تمثل الفاشية الجديدة الأوساط الأشد رجعية ضمن المنظومة الرأسمالية، أوساط رأس المال المالي الإجرامي العالمي التي تحارب ضدّ أيّ تغيير في التوازنات الدولية القديمة التي وفرت لها أعلى الأرباح، والتي تجر العالم إلى حريقٍ جماعي، ما يستدعي رداً مقابلاً ليس من الشعوب المتضررة وحدها، ولكن من الأوساط الرأسمالية الأخرى أيضاً».
واليوم ما الجديد الذي أتى به الحريق اليمني؟ إنّ قبول الولايات المتحدة الأمريكية اضطرارياً بإيقافه يمكن اعتباره مؤشراً جديداً نوعياً على انتقال الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة تحكم فيها بالفشل في قدرتها على إشعال حرائق واسعة في أماكن عالية الحساسية والأهمية على الخارطة العالمية، ولكن الإمبريالية تتنفس دخان الحرب وهي تختنق من دونه، فالحرب هي «الرئة الحديدية التي تتنفس منها الرأسمالية» كما قال إنجلز، وهذا يقود إلى الافتراض بأنّنا مقبلون على مرحلة تستمر فيها الولايات المتحدة بمحاولات إشعال الحرائق، ولكن ربما تستهدف بقاعاً أقل أهمية وحساسية على الخارطة، يمكن تخمينها، لكن يحتاج الأمر مزيداً من البحث لمعرفتها الدقيقة التي ستكون على كل حال رهناً بتطورات المستقبل.
نهاية «الحزم» و(الحسم» والانعكاس على الملف السوري
رغم المسعى الأمريكي للقفز من نقطة إلى أخرى كلما لاح احتمال الخسارة، ولربط الملفات الدولية باحثة عن «صفقات» تقلل الخسائر، عززت تطورات الملف النووي الإيراني، والحدث اليمني وأكدت صحة التنبؤ بأنّ هذا المسعى الأمريكي في عمقه: «سيزيد من تلك الخسائر ويعزز مواقع روسيا وحلفائها التي لن تكون في وارد عقد صفقات طالما أن واقع الأمور يدفعها يوماً بعد آخر نحو الأمام تزامناً مع تراجع الخصم وتقهقره ومراكمته لهزائمه المتتالية.» – افتتاحية قاسيون العدد 644 – 9 آذار 2014.
في جوهره لا يختلف كثيراً كلام البعض عن خلاصة عملية «عاصفة الحزم» من حيث اختزالها إلى مجرد «صمود عسكري» بالدرجة الأولى، عن كلام التحالف المعادي بقيادة السعودية عن الأهداف العسكرية التي دمرها «للحوثيين». ومن اللافت بأن هؤلاء أنفسهم كانوا قد أصروا وما زالوا على أوهام «الحسم» العسكري في مواقفهم من الأزمة السورية.
إنّ اضطرار التحالف المدعوم أمريكياً إلى إيقاف «الحزم» مثلما أنه لا يعني «إعادة الأمل» برجوع عقارب الساعة إلى الوراء بالنسبة للقوى الدولية والإقليمية الهزومة سياسياً في هذا التدخل فإنّه لا يعني أبداً «الأمل» الذي يحاول البعض عبثاً – بالمقابل - إعادة إحيائه في العودة إلى أوهام «الحسم» العسكري، والذي لا يعني بالملموس، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه، سوى تأخير وعرقلة ضرورة التغيير الشامل والجذري المستند إلى قوى الشعوب ومصالحها العميقة الوطنية والاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية، بل بالعكس تؤكد التجربة ضرورة الاستفادة من هذا التطور لميزان القوى وتحركه باتجاه الحلول السياسية الإلزامية، على اعتبار أنّ الحل السياسي هو استمرار للصراع بطرق غير عسكرية، ولهذا بالذات يفتح الباب أمام أولئك العزّل الذين غيّب السلاح أصواتهم وضيع مصالحهم، إنهم الشعوب التي تعب ظهرها من الانحناء وهي وحدها من يحق لها أن تحدد علو سقف التغيير المطلوب الذي يناسب قامتها المنتصبة السائرة نحو مستقبل مصالحها الجذرية.