هل ستؤدي استراتيجية الهيمنة الأمريكية إلى حرب عالمية ثالثة؟؟
تعتمد استراتيجية واشنطن في الهيمنة على نشر قواتٍ عسكريةٍ على طول «قوس عدم الاستقرار» الممتد من البحر الكاريبي إلى إفريقيا والشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى وصولاً إلى آسيا الجنوبية.. في هذه البقاع من العالم التي تتسم بالفقر والعزلة وعدم الاستقرار، يرى واضعو الخطط العسكرية ما «يهدد مصالح الولايات المتحدة في المستقبل»، بينما يثير تزايد الوجود العسكري الأمريكي في جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية سابقاً، وأوروبا الشرقية، مخاوف موسكو من أنّ واشنطن تسعى لإيجاد موطئ قدمٍ عسكري دائمٍ حول فضائها الاستراتيجي، كما أنّ إنشاء القواعد العسكرية الأمريكية يقرع أجراس الإنذار في بكين.
أوروبا الشرقية.. والحرب الباردة الجديدة
في العام 2005، ذكر أنّ محادثاتٍ تجري منذ العام 2002 بين الولايات المتحدة وبولونيا، إضافةً إلى دولٍ أخرى، حول إمكانية إقامة قاعدة أوروبية لاعتراض الصواريخ بعيدة المدى. كذلك ذكر أنّ قاعدةً كهذه لم تكن ممكنةً قبل انضمام بولونيا إلى حلف الناتو في العام 1999.
في تشرين الثاني 2007، هدّدت روسيا بوضع الصواريخ النووية قصيرة المدى في موقعٍ جديد يتاخم حدود الاتحاد الأوروبي في حال رفضت الولايات المتحدة التخلي عن خططها في نصب درعٍ دفاعيٍّ صاروخي. كما أنّ خبيراً روسياً بارزاً أشار إلى أنّ صواريخ اسكندر قد تنشر في بيلاروسيا إن مضت الولايات المتحدة في مشاريعها لنشر عشرة صواريخ اعتراضية ومحطة رادار في كلٍ من جمهوريتي بولونيا والتشيك. بوتين، من جانبه، هدّد أيضاً بإعادة توجيه الترسانة النووية الروسية نحو أهدافٍ داخل أوروبا. مع ذلك، تزعم واشنطن إنّ الدرع لا يستهدف روسيا، وإنما دولاً مثل إيران المتهمة بالسعي وراء تطوير أسلحةٍ نوويةٍ قد تضرب الغرب يوماً ما، وهو إدعاءٌ سخيف. ففي أيار 2009، أصدر علماء روسٌ وأمريكيون تقريراً يذكر أنّ إيران تحتاج على الأقل إلى ست أو ثماني سنواتٍ إضافية لإنتاج صاروخٍ يصل مداه إلى أوروبا الجنوبية، وأنّه دون مساعدةٍ أجنبيةٍ سرية أو جهودٍ تقارب عقداً من السنوات، لا يمكن إحداث الاختراق الضروري لإنتاج صاروخٍ برأسٍ نووي يهدد الولايات المتحدة. بل إنّه في كانون الأول 2007، ذكر تقرير تقييم الاستخبارات القومي، الذي تعدّه الوكالات الاستخبارية الست عشرة في الولايات المتحدة، أنّ إيران أوقفت برنامج تسلحها النووي في العام 2003 وأنّ ذلك البرنامج لا يزال مجمداً.
ما يقلق روسيا ليس الصواريخ الاعتراضية في بولونيا، التي تدعي أنها تستهدف روسيا، فحسب، بل رادار تتبع الصواريخ المتطور والذي يريد البنتاغون وضعه في جمهورية التشيك. كذلك، ذكرت صحيفة الغارديان في العام 2007 أنّ «روسيا تجهز ردودها العسكرية لمواجهة خطط واشنطن الخلافية حول بناء منظومة دفاعٍ صاروخيةٍ جديدة في أوروبا الشرقية»، وفقاً لمسؤولي الكرملين، في تحرّكٍ يصعّد مخاوف سباق تسلّحٍ من نمط سباق الحرب الباردة. قال الناطق الرسمي باسم الكرملين عن الدفاعات الصاروخية البولونية ونظام الرادار التشيكي: «نحن قلقون جداً ومحبطون. لم نبلغ بشكلٍ مسبقٍ عن هذه الخطط، التي ستحدث تغيراً هائلاً في التوازن الاستراتيجي في أوروبا، والتوازن الاستراتيجي العالمي».
الصين وروسيا
في أيار 2008، اجتمع الرئيسان الروسي ميدفيديف والصيني هو جنيتاو لإنجاز اتفاق حول التعاون النووي وشجب المشاريع الأمريكية المتعلقة بالدرع الصاروخي في أوروبا. اعتبر البلدان أنّ المشروع نكسةٌ في الثقة الدولية ستسبب على الأرجح انقلاباً في ميزان القوى.
في تموز 2008، قال وزير الخارجية الروسي إنّه «سيكون قسرياً القيام بردٍّ عسكري إذا أبرمت اتفاقية الدفاع الصاروخي بين الولايات المتحدة وجمهورية التشيك»، وإنّه «سيكون علينا الردّ ليس بالطرق الدبلوماسية، بل بطرقٍ عسكرية ـ تقنية». في آب 2008، توصلت الولايات المتحدة وبولونيا إلى اتفاقٍ لإقامة قاعدة صواريخ دفاعية أمريكية في الأراضي البولونية. ردّت روسيا بقولها إنّ هذا التحرّك سيجعل العلاقات مع واشنطن أكثر سوءاً. بل إنّ روسيا قالت: «أظهرت الولايات المتحدة أنّ روسيا هي الهدف الحقيقي للدرع الدفاعي، حتى أنّ التوتر بين القوتين تواصل حتى اندلاع النزاع في جورجيا». أما نائب رئيس هيئة الأركان الروسية، «فقد حذّر من أنّ بولونيا تجعل من نفسها هدفاً للقوات المسلحة الروسية».
الجنرال أناتولي نوغوفيتسين قال إنّ أية مصادر قوةٍ أمريكيةٍ جديدةٍ في أوروبا قد تصبح عرضةً لهجومٍ نوويٍّ روسيٍّ بقواته التي تستهدف تحالف البلدان التي تملك أسلحةً نووية، وإنّ أهدافاً كتلك ستكون لها الأولوية في الضربة التدميرية.
في نيسان 2009، قال أوباما «إنّ منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية في التشيك وبولونيا ستمضي قدماً». وفي أيار 2009، قالت روسيا إنّها «قد تنشر صواريخ إسكندر الأحدث على حدود بولونيا إذا ما مضى مشروع نصب صواريخ باتريوت على الأراضي البولونية قدماً». وفي تموز 2009، قال الرئيس ميدفيديف إنّ «روسيا ستواصل نشر الصواريخ قرب الحدود البولونية إذا مضت الولايات المتحدة قدماً في إقامة الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية».
الحرب الجورجية.. ومحاولة تطويق روسيا
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، أعلن إقليم أوسيتيا الجنوبية المتاخم لشمال جورجيا الاستقلال، لكنّه فشل في الحصول على اعترافٍ دوليٍّ باستقلاله. وهذا الإقليم مثل أبخازيا، الإقليم الجورجي المتمتع بالحكم الذاتي، متحالفٌ تقليدياً مع روسيا. وهنالك توتراتٌ قائمةٌ منذ زمنٍ طويلٍ بين أوسيتيا الجنوبية وجورجيا، ووقف إطلاق نارٍ غير مستقر.
في الأول من آب 2008، قتل ستة أشخاصٍ في أوسيتيا الجنوبية حين اندلع قتالٌ بين قوات البلدين. ألقى كلٌ من البلدين اللوم على الآخر بوصفه البادئ بإطلاق النار، كما ألقت قوات حفظ النظام الروسية اللوم على جورجيا، وبالمقابل ألقى الجورجيون اللوم على تلك القوات.
في الخامس من آب من العام نفسه، أعلنت روسيا أنّها سوف «تدافع عن مواطنيها المقيمين في منطقة النزاع» إذا اندلع النزاع في جورجيا، كما قال رئيس أوسيتيا الجنوبية إنّ جورجيا كانت «تحاول إثارة حربٍ على نطاقٍ واسع». كذلك، تمّ إجلاء أطفال أوسيتيا من منطقة النزاع، وهو تصرّفٌ أدانته جورجيا، قائلةً إنّ الانفصاليين «استخدموا أولادهم كبروباغندا سياسية».
في السابع من آب، تمّ إعلان وقفٍ لإطلاق النار بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية، قامت فيه روسيا بدور الوسيط بين البلدين. وفي ليل 7 آب، بعد خمس ساعاتٍ من إعلان وقف إطلاق النار، شنّ رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي هجوماً عسكرياً على عاصمة أوسيتيا الجنوبية، تسخينفالي. استهدف الهجوم الجورجي المشافي والجامعة وترك المدينة دون طعامٍ وماءٍ وكهرباءٍ وغاز.
حاصرت القوات الجورجية المدينة وواصلت مدرعاتها وجنودها الاعتداء على الأهداف المدنية. في الثامن من آب، دعت روسيا لإنهاء العدوان العسكري. في هذا الوقت، قتل ألفا مدني في أوسيتيا كما ذكر. هكذا أرسلت روسيا قواتها إلى المنطقة، وأشار رئيس الوزراء الروسي بوتين إلى العمليات الجورجية بأنها إبادة جماعية، كما ذكر أنّ روسيا قصفت مدينةً جورجية. دعت الولايات المتحدة مباشرةً لإنهاء القصف الروسي. وقد دعاه الرئيس الجورجي اجتياحاً روسياً وحشياً لا مبرر له. بعد العدوان الجورجي، عمّ الخراب تسخينفالي ولجأ إلى روسيا 34 ألف لاجئ من أوسيتيا الجنوبية.
أما جورجيا، التي تنشر ألفين من جنودها في العراق، فقد أعلنت في التاسع من آب أنّها ستسحب ألفاً من جنودها في العراق وتنشرهم في أوسيتيا الجنوبية، وستقوم الولايات المتحدة بتأمين إعادتهم إلى جورجيا. وعلى الرغم من ذلك، دفع التقدّم الروسي الجنود الجورجيين إلى الوراء، واستعاد المدينة وتسبّب بأضرارٍ بالغة للبنية العسكرية الجورجية التحتية. كما دخل الجنود الروس مقاطعة أبخازيا المنفصلة واحتلوا مدينة جوري الجورجية.
فشل «غربي» ذريع
في الثاني عشر من آب، أعلن الروس انتهاء عملياتهم العسكرية في جورجيا. وفي الثالث عشر منه، انسحب ما تبقى من القوات الجورجية من أوسيتيا الجنوبية.
هذه الحوادث هي أكثر من مجرّد نزاعٍ بين روسيا وبين دولةٍ صغيرةٍ في آسيا الوسطى. ومن المهم التذكير بالدور الذي لعبته المنظمات غير الحكومية الأمريكية في إيصال الرئيس الجورجي ساكاشفيلي إلى السلطة من خلال الثورة الوردية في العام 2003. بعد ذلك، طوّرت الولايات المتحدة روابط أوثق مع جورجيا. في العام 2002، وصل المستشارون العسكريون إلى جورجيا في محاولةٍ لفتح «جبهةٍ جديدة» في الحرب على الإرهاب، وفق الأمريكيين لتدريب الجيش الجورجي على كيفية مواجهة الأنشطة العدائية. كذلك، وصل إلى جورجيا في العام 2002 مئاتٌ من القبعات الخضراء ومئتان من عناصر القوات الخاصة لتدريب القوات الجورجية على عمليات مكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد. حذّرت روسيا من مغبّة تدخّل الولايات المتحدة في جورجيا قائلةً إنّ ذلك قد يعقّد الوضع.
بل إنّ القوات الجورجية والأمريكية أجرت مناوراتٍ وتدريباتٍ عسكريةً مشتركة. في تموز 2008، ذكر أنّ ألف جندي أمريكي في جورجيا بدؤوا مناورةً تدريبيةً مع القوات الجورجية أطلق عليها «الرد السريع 2008». كما ذكر التقرير نفسه أنّ جورجيا والبنتاغون تعاونا على نحوٍ وثيق. أتت المناورة وسط التوترات المتنامية بين روسيا وجورجيا، في حين ساندت الولايات المتحدة في الوقت نفسه مطلب جورجيا بالانضمام إلى حلف الناتو.
علاوةً على ذلك، توجّب على 1200 عسكري أمريكي و800 عسكري جورجي التدرّب لمدّة ثلاثة أسابيع في قاعدة عسكرية قرب تبليسي عاصمة جورجيا. جرى التدريب بالتعاون مع الناتو، وسبقته زيارة وزيرة الخارجية غونداليزا رايس إلى جورجيا، حيث التقت الرئيس وصرّحت بأنّ «مستقبل جورجيا هو في الناتو».
على أية حال، لم تمر هذه التمرينات وتنامي التعاون العسكري بين جورجيا والولايات المتحدة دون ملاحظة روسيا، التي بدأت في الوقت نفسه مناوراتٍ على الجانب الآخر من جبال القوقاز، شارك فيها أكثر من 8000 عسكري روسي. من الواضح أنّ روسيا نفسها كانت مدركةً لإمكانية نشوب نزاعٍ مسلّحٍ في المنطقة.
حين بدأ النزاع مع روسيا، كان في جورجيا مدربون عسكريون أمريكيون، كما أنّ مندوب روسيا في حلف الناتو اتهم الحلف بتشجيع جورجيا على القيام بالعدوان على أوسيتيا الجنوبية.
الحضور الإسرائيلي العلني
لم تكن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي قدّمت المساعدة لجورجيا، فقد لعبت إسرائيل، العضو غير الرسمي في الناتو، دوراً في تسليح جورجيا. كما أنّ المدرعات والمدفعية الجورجية التي احتلت عاصمة أوسيتيا الجنوبية تلقت العون من المستشارين العسكريين الإسرائيليين. فضلاً عن أنّ الرئيس الجورجي، وقبل اندلاع النزاع بأكثر من عام، كلّف أكثر من ألف مستشارٍ عسكري إسرائيلي من شركاتٍ أمنيةٍ إسرائيليةٍ خاصة بتدريب القوات المسلحة الجورجية، إضافةً إلى تقديم الخبرات العسكرية والأمنية. كما أنّ جورجيا اشترت معداتٍ عسكرية من إسرائيل.
صممت الحرب في جورجيا لتصعيد التوترات بين الناتو وروسيا، باستخدام المنطقة كوسيلةٍ لتوسيع النزاع. مع ذلك، عمل قرار روسيا في إنهاء العمليات القتالية على وجه السرعة لمصلحتها وكان له دورٌ في تقليص التوترات الدولية. مسألة انضمام جورجيا إلى الناتو بالغة الأهمية، لأنها حالما تصبح عضواً في الناتو، فأي هجومٍ روسي عليها سينظر إليه بوصفه هجوماً على جميع أعضاء الناتو. أطلق الناتو الحرب في أفغانستان بدعوى أنّ هجوماً على عضوٍ هو هجومٌ على الجميع.
والأمر ذو الدلالة، وجود عقدٍ من خط أنابيب هائل قيد الإنشاء تقع جورجيا في موضعٍ استراتيجي منه. تمتد أراضي جورجيا بين روسيا وتركيا، وبين بحر قزوين والبحر الأسود ووراء إيران والعراق. لا يمكن إغفال أهمية جورجيا كمخفرٍ استراتيجي متقدم ـ وهو أمرٌ صحيح، خاصةً حين يتعلق الأمر بأنابيب النفط.
فخط أنابيب باكو تبليسي سيهان BTC، ثاني أكبر خط أنابيب في العالم، يمتد من باكو عاصمة أذربيجان عبر تبليسي عاصمة جورجيا وصولاً إلى سيهان، الميناء التركي على البحر الأبيض المتوسط. يشق هذا الخط طريقاً يتجنب روسيا وإيران لنقل موارد حوض قزوين النفطية إلى أسواق الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا الغربية. شركة بيكتيل الأمريكية هي المقاول الرئيسي في عمليات الإنشاء والتجميع والهندسة، في حين تملك بريتيش بتروليوم الحصة الرئيسية في المشروع. أما إسرائيل، فستحصل على الكثير من نفطها عبر تركيا عن طريق خط الأنابيب الذي يلعب دوراً كبيراً على الأرحج في مساندة إسرائيل لجورجيا في نزاعها، لأن مواجهةً مستمرة بين الغرب والشرق (روسيا والصين) ستتواصل للسيطرة على موارد العالم.
زيبغنيو بريجنسكي، المؤسس المشارك مع ديفيد روكفلر للجنة الثلاثية ومستشار جيمي كارتر للأمن القومي والذي لعب دوراً أساسياً في خلق المجاهدين الأفغان الذين صاروا يعرفون باسم القاعدة، كتب افتتاحيةً لمجلة التايم عند اندلاع النزاع الروسي ـ الجورجي. ألقى بريجنسكي اللوم على روسيا بصورةٍ طبيعية، كونه رائد الاستراتيجية الجيوسياسية للحرب الباردة، في ذلك النزاع. لكنه كشف كذلك الجوهر الحقيقي للنزاع.
استهل مقالته بإلقاء اللوم على روسيا «لغزوها جورجيا» تحقيقاً «لأهدافها الإمبريالية» ومزيداً من اللوم على «المزاج القومي المستعر الذي ينتاب النخبة السياسية الروسية». ومضى قدماً لتوضيح الأهمية الاستراتيجية لجورجيا قائلاً إنّ جورجيا مستقلة هي أمرٌ حاسمٌ في تدفق النفط الدولي. طالما أنّ خطّ أنابيب BTC يوفر للغرب وصولاً إلى موارد الطاقة في آسيا الوسطى. وحذّر روسيا من أنها ستنبذ دولياً، خاصةً نخبة رجال أعمالها الذين أطلق عليهم تسمية «الهشين» لأنّ «الأوليغاركية الروسية القوية تودع مئات مليارات الدولارات في حسابات مصرفية غربية»، ربما «يجمدها» الغرب في حال «مواجهة من نمط الحرب الباردة». كادت مقالة بريجينسكي أن تكون ابتزازاً جيوسياسياً.
على صفيح ساخن
لا تزال مواقف الحرب الباردة بين الغرب والشرق قائمة، بل إنها تتفاقم، بحيث يمكن أن يشار إليها بوصفها «حرباً باردةً جديدة». وفي الوقت نفسه، تواصل النزاعات الإقليمية على مستوى العالم اندلاعها وتوسعها في الشرق الأوسط وإفريقيا الوسطى وآسيا الوسطى، وتضاف إليها انقلاباتٌ عسكريةٌ وتغيير أنظمةٍ إضافي في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية ومناطق أخرى في العالم. مع ذلك، فالمسألتان الرئيسيتان عالمياً، النزاعات والحروب الإقليمية والحرب الباردة الجديدة، ليستا منفصلتين، لكنهما متلازمتان. تفاقم النزاعات، في منطقةٍ ما أو في كل المناطق، سيساعد فحسب على اشتداد النزاع الاستراتيجي السياسي بين تحالف الولايات المتحدة ـ حلف الناتو وتحالف الصين ـ روسيا. فكل ما تتطلبه حربٌ عالميةٌ جديدةٌ كبرى لا يعدو شرارة: سواءٌ أتت على هيئة حربٍ بين باكستان والهند، أو على هيئة ضربةٍ عسكريةٍ على إيران، فسيكون موقفاً لن يجعل روسيا والصين تقفان لامباليتين كما حدث مع العراق. فضربةٌ موجهةٌ إلى إيران، خاصةً إن كانت بصواريخ نووية، كما هو مقترح، ستؤدي إلى حربٍ عالميةٍ ثالثة. إذن، لماذا تواصل استراتيجية الناتو ـ الولايات المتحدة الدفع نحو هذه الوجهة؟
كتب جورج أورويل ذات مرة:
«لا تعني الحرب الظفر، بل تعني الاستمرار. فالمجتمع التراتبي ممكنٌ فقط على قاعدة الفقر والجهل. هذه النسخة الجديدة هي الماضي، ولا يمكن لماضٍ مختلفٍ أن يوجد. من حيث المبدأ، فمحاولة الحرب معدّةٌ دائماً لإبقاء المجتمع على حافة التضور. تشن الحرب مجموعةٌ حاكمةٌ في مواجهة رعاياها ولا يكون هدفها النصر على أوراسيا أو آسيا الوسطى، بل الإبقاء على بنية المجتمع كما هي».
حربٌ عالميةٌ جديدةٌ ستكون حرباً كونيةً تشنها الطبقة الحاكمة على صعيد العالم ضد مواطني العالم، بهدف المحافظة على مجتمعٍ تراتبي وإعادة هيكلته خدمةً لمصالحها الخاصة. سيمثل الأمر حرباً عالميةً جديدةً من أجل نظامٍ عالمي جديد. ففي عالمٍ معولم، لكل نزاعٍ تأثيراتٌ عالمية. المهمة الملحة هي قدرة الشعوب على معرفة أنّ الحرب لا تشن ضد عدوٍ «بعيد» أو خارجي، بل ضد شعوب العالم.
*أندرو غيفن مارشال: مشارك في مركز أبحاث العولمة. مدرّس الاقتصاد السياسي والتاريخ في جامعة سايمون فريزر.