الفساد المالي العالمي.. ومسؤولية صندوق النقد والمصارف الكبرى..
توقّع العديد من الاقتصاديين منذ وقتٍ طويل الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في العام 2008، ولاسيما بسبب الفقاعة المالية المتصلة بالمضاربة. لكن فيما يخصّ انحرافات الاقتصاد الرأسمالي، تبدو مسؤولية المصارف والديون والفراديس الضريبية أكثر عمقاً، وفي الوقت نفسه أكثر قدماً مما يتمّ ذكره عموماً. في قلب الدولة والحوكمة الاقتصادية والسياسية، تسيطر السلطة المالية على نحوٍ شرعي في بعض الأحيان، وبأشكالٍ غير شرعية وبعيدة عن الديمقراطية في أحيان أخرى، فهناك العديد من الآليات المركزية لسلطة المصرفيين على العالم. أما الديون، ولاسيما ديون البلدان النامية، فهي أداة سيطرةٍ ماليةٍ في يد البلدان الغنية على البلدان الفقيرة، في حين أنّ خصخصة سلطة إصدار النقد في يد المصارف الخاصة تؤدي إلى سرقةٍ قانونيةٍ لخيراتٍ عامة.
مصارف الفراديس الضريبية..
المصارف الكبيرة ومالكوها (روكفلر، روتشيلد، مورغان، سيتي غروب، غولدمان ساكس...) تمثّل أحد أعمدة السلطة العالمية، لأنّ هؤلاء الملاّك لديهم أموال طائلة. وقد عدّدت مجلّة فوربس 1125 شخصاً من أصحاب المليارات في العام 2008 (كرول، 2008). في تصنيف فوربس للعام 2005، كان بيل غيتس أغنى أغنياء العالم، حيث بلغت ثروته 46.5 مليار دولار، وحلّ وارن بوفيه في المرتبة الثانية بثروةٍ قدرها 44 مليار دولار. تتجاوز ثروة أكبر المصارف تجاوزاً كبيراً ثروة أغنى الأفراد، إذ بلغت ثروة سيتي غروب عشرة أضعاف ثروة بيل غيتس، وبلغت ثروة بنك أوف أمريكا ستة عشر ضعفاً. في تصنيف فوربس للعام 2005، كان هنالك خمسة مصارف، من بينها سيتي غروب (484.1 مليار دولار من الموجودات)، وبنك أوف أمريكا (776.42 مليار دولار من الموجودات)، ثم إش إس بي سي، آي إن جي غروب ويو بي إس. ويسمح لها ذلك بشراءٍ مطلقٍ نظرياً لكلّ ما يمكن أن يخدم هدفها في القوة: شركات، وسائل إعلام، مختلف السلع، إلى حدّ إفساد القادة السياسيين إن دعت الحاجة، القابلين لأن يستأجرهم الآخرون لأغراضهم الدنيئة.
التدفقات المالية غير الشرعية
إلى الفراديس الضريبية
الفراديس الضريبية وغرف التعويض (كليرستريم) هي أداةٌ أساسيةٌ في إفساد المواطنين سياسياً ونهبهم اقتصادياً. يصعب تحديد مقدار رؤوس الأموال الشرعية أو غير الشرعية التي تستجرها الفراديس الضريبية. قدّر صندوق النقد العالمي في العام 2003 أنّ ما يتراوح بين 600 و1500 مليار سنوياً من الأموال القذرة تجول في العالم، وأنّ تبييض الأموال يمثّل 5 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وفق مكتب الأمم المتحدة لمراقبة المخدرات ومنع الجريمة في تقريره للعام 1999، كان يتمّ سنوياً تبييض 50 % من مبلغ 4800 مليار فرنك فرنسي الناتج عن مجمل النشاطات الإجرامية في العالم (الإتجار بالمخدرات، الدعارة، العملة المزيفة...) في الفراديس الضريبية.
بالنسبة لفرنسا، ذكر المجلس العلمي لأتاك فرنسا في العام 1999 أنّ 350 مليار دولار يتم تبييضها ليعاد استثمارها في الاقتصاد الشرعي. كما قدّر المجلس فواتاً في إيرادات خزينة الدول بمبلغٍ يفوق 300 مليار يورو، يضاف إليها التهريب والتهرّب الضريبي. مثّل التهرّب الضريبي في العام 2003 نحو 50 مليار يورو بالنسبة لفرنسا، أي 17 % من ميزانية الدولة، وهو ما يعادل العجز في الميزانية (أتاك، 2004). بالنسبة للبلدان النامية، يؤدي التهرب الضريبي إلى فواتٍ في العائدات الضريبية يبلغ 50 مليار دولار، ما يعادل المساعدات السنوية للتنمية في مجمل بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. وقد افتتحت الغالبية العظمى من المصارف الكبرى والشركات الأوروبية أو الأمريكية فروعاً في الفراديس الضريبية. هذه هي الحال على سبيل المثال بالنسبة لمصرف BNP Parisbas، المتواجد في باهاماس وفي جزر كايمان، وبالنسبة لمصرف كريدي أغريكول، CIC وكريدي ليونيه وناتكسيس وبانك بوبولير وسوسييتيه جينيرال، الخ. تحقق شركة توتال أكبر أرباحها في الشركات الفرعية المسجلة في جزر برمودا وفي المناطق الأخرى ما وراء البحار، إلخ. (فوتواييه، 2005).
إذاً، وخلافاً للأفكار المتلقاة، ليست الفراديس الضريبية «نظاماً فرعياً» على هامش الآلة الاقتصادية، بل إحدى عجلاتها. وبالفعل، يقدّر أنّ أكثر من نصف الصفقات المالية الدولية يمرّ عبر الفراديس الضريبية. وهذه الفراديس تسهل التهرّب الضريبي والحد من النظام الضريبي، وتبيض الأموال القذرة، والعمليات الخفية، والسرية المصرفية، والحصانة القضائية، وغياب التعاون القضائي الدولي بمسؤولية مجموعة الثماني وموافقتها.. وهذه الفراديس مسرّعٌ للإجرام بفضل تبييض الأموال المتصل بتجارة المخدرات والدعارة وتزييف الأموال وابتزازها..
الشركات ـ الستار أدواتٌ تستخدم ضدّ الشفافية الديمقراطية. الشركة ـ الستار هي شركة وهمية تخفي مالكها الحقيقي عبر استخدام أسماء مستعارة. وهي كثيرة الاستخدام في التهرب الضريبي. وفق مكتب الأمم المتحدة لمراقبة المخدرات ومنع الجريمة، تؤوي الفراديس الضريبية نحو 3 ملايين شركة ـ ستار. (ODCCP، 2000).
تبييض الأموال
في العام 1991، أدّت الفضيحة الدولية لبنك الإقراض والتجارة الدولي (BCCI) إلى إغلاق العدالة له، وأظهرت الصلة القابلة للوجود بين الإتجار بالمخدرات والتمويل الرفيع والخدمات الخاصة. تمّ تسجيل هذا البنك في لوكسمبورغ، وقد احتوى كيفما اتفق حسابات الجنرال نورييغا وأجهزة السي آي إيه والشركات المرتبطة بالإتجار الدولي للمخدرات وتاجر الأسلحة خاشقجي، وآلاف غيرها من الحسابات ذات الطبيعة المشابهة.
هذه المصارف تقع في قلب السلطة المالية، وهي أماكن إيداع الأموال ومكان تحويل التدفقات المالية التي تعدّ طاقة النظام ودمه. في الماضي، كان تبييض الأموال القذرة يمرّ بمصارف البلدان المتطورة على نحوٍ خاص، أمّا الآن، فهو يمرّ مسبقاً بمصارف الفراديس الضريبية (أندورا، جزر الكايمان، لوكسمبورغ، جيرسي...) أو عبر كليرستريم (مصرف المصارف). فضلاً عن ذلك، فالغالبية العظمى من المصارف الكبيرة لديها حسابات في الفراديس الضريبية. هكذا، بيّض بعضها، مثل مصرف فيبا التابع لشركة إلف، أموالاً أو ساهم في التهرّب الضريبي. لكن في قلب لندن نفسها، تقوم منطقة سيتي، التي تستقبل المصارف البريطانية الكبيرة، بممارساتٍ مماثلةٍ لمماثلة مصارف الفراديس الضريبية.
تعزز المصارف السويسرية، واللوكسمبورغية بصورةٍ خاصة، مع الفراديس الضريبية انحرافات الرأسمالية اللاشرعية والفساد، عبر تبييض الأموال القذرة، لاسيما بفضل ثقافة السرّية ورفض الشفافية في مجمل الحسابات القائمة والتحويلات التي تجري فيها.
لقد أوضح دوني روبير إحدى تقنيات التبييض في كتابه «كشف»، محللاً عمل مصرفي كليرستريم ويوروكلير. والحال أنّ وسائل الإعلام تقتصر بصدد ذلك على ذكر «قضية كليرستريم»، أي مشكلة فيلبان ساركوزي، وتكاد لا تذكر إطلاقاً ملف كليرستريم الحقيقي. هكذا أخفت تلك القضية بعض التحويلات المريبة بفضل «آلية التعويض». يقدّر دوني روبير أنّ غرف التعويض، ولأنها في قلب التمويل العالمي، تبيّض أموالاً أهمّ بكثيرٍ مما تفعله الفراديس الضريبية. بالتالي، فهي أكثر قوةً وخطراً للحفاظ على حالة القانون في الاقتصاد العالمي. على سبيل المثال، يؤكد دوني روبير أنّ بنك BGPI، التابع لبنك كريدي أغريكول أندوسويز، يمتلك هو أيضاً حساباً في بنك كليرستريم.
دور المصارف والوسطاء المافيويين
عبر عقود الشركة الحكومية سيمبورتكس (التي كانت تدعى إيماتيك) وهي عقودٌ تتضمن قمة البنى الحكومية المالية والعسكرية في أنغولا، دفعت للمستثمر الفرنسي الروسي أركادي غايداماك 135 مليون دولار زيادةً عما كان ينبغي أن يقبضه مقابل تسليم معداتٍ عسكرية أواخر العام 1996. أغلقت القضية بمجموعةٍ من المؤسسات المصرفية معظمها أوروبي (فرنسا، سويسرا، ألمانيا، النمسا...) بزعامة مصرف باريبا.. وقد تمّت إدانة مديرين اثنين في بنك باريبا في فرنسا بسبب هذه الصفقات غير الشرعية أثناء محاكمة أنغولا غيت في العام 2008.
تمّ دفع مبلغ الـ1335 مليون دولار إلى غايداماك عبر حسابٍ فتحته سونانغول في بنك نيويورك ـ وهي مؤسسةٌ مشتبهةٌ بتبييض الأموال، ما استثار اهتمام التحقيق الدولي حول فضيحة «كريملنغيت».
تبدّى أنّ كل الحسابات المتصلة بفضيحة كرملينغيت قد تمّ فتحها في خمسة مصارف نيويوركية. يعتقد المحققون أنّ مصرف ميناتيب كان «نقطة الأصل الرئيسية للأموال التي تمّ تبييضها. «من المعتقد أنّ ميناتيب قد واصل العمل من تحت الطاولة في العام 1998 وحوّل أموالاً مشبهوهة إلى شركاتٍ ما وراء البحار تقع مقرّاتها في مناطق بعيدة مثل الجزر العذراء».. (روسلو، 31/8/1999). وفي حين أنّ بنك ميناتيب مفلسٌ رسمياً منذ العام 1998، فقد وجد إرنست بيكس في سجل العام 2000 لشركة التعويضات الدولية كليرستريم حساباً غير منشور رقمه 81738 باسم ميناتيب، الزبون «غير المسجّل». يمتلك شريكه في التبييض (15 مليار دولار في العام 1998 وحده)، أي بنك نيويورك، حساباتٍ عديدةً غير منشورة في شركة التعويض المالي الغائمة كليرستريم.
بنك نيويورك وشركة غلينكور (كريملنغيت)
في آب 1999، انفجرت فضيحة كريملنغيت. يعتقد المحققون أنّ ميناتيب كان «نقطة الانطلاق الرئيسية للأموال التي تمّ تبييضها»، فبعد سقوط جدار برلين، ربحت شركة غلينكور مليارات الفرنكات الفرنسية من نفط الاتحاد السوفييتي السابق، بالشراكة مع ميناتيب، المصرف الروسي في قلب كريملنغيت. «هنالك عدة مجموعات أنغولية كبيرة لديها حسابات في بنك نيويورك، الذي يتهمه مكتب الاستخبارات الفدرالي بأنّه (أعاد تدوير) 10 مليار دولار من الأموال الروسية، كما عملت شركات متصلة بميناتيب في دارات تمويل النفط الكونغولي».
في روسيا، كانت المافيا تستحوذ على معظم قروض صندوق النقد الدولي، وقد (أعادت تدوير) 10 مليار دولار من المساعدات الدولية، بل إنها سمحت لنفسها بخداع أحد أقدم المصارف الأمريكية، بنك أوف نيويورك، باستخدام هذا المال. بصورةٍ عامة، يدرك صندوق النقد الدولي اختلاس المساعدات الحكومية للتنمية ولا يتدخل، هذا ما يشرحه ستيغليتز، الذي عمل في البنك الدولي.
وفق الصحيفة اليومية يو إس آي توداي بتاريخ 26 آب 1999، والتي نقلت أقوال مسؤولين أمريكيين وبريطانيين وروس، تمثّل فضيحة كريملينغيت ما مجموعه 15 مليار دولار تمّ اختلاسها أثناء عمليات معقدة تورط فيها أشخاصٌ مقربون من بوريس يلتسين وسلسلة من أعضاء حكوماته المتتالية.
مذّاك، نشرت صحيفة لوباريزيان بتاريخ 23 آذار 2001 وثائق DGSE ـ وهي من أبغض البغائض لدى غايداماك ـ تصف سلسلةً من «عمليات التبييض». يتم تقديم النفط الأنغولي تعويضاً لمشتريات من الأسلحة الروسية بتوسط باريبا، و«تعيد شركة برينكو بيعه بوصفه نفطاً روسياً خاماً»، بمساعدة غلينكور. ربحت غلينكور ملياراتٍ على حساب النفط الروسي، بالتنسيق مع ورثة أصحاب الامتيازات السوفييت. نهب النفط الهائل هو أحد أسباب إخفاق روسيا. كما نهبت مجموعة الورثة المفتقرين لأي وازع ترسانة الجيش الأحمر والمخزون الهائل من الألمنيوم والسماد، الخ. بأرباحٍ فلكية، وكذلك نهبت ديون البلاد ومليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي.
أمكن مزج جزءٍ من هذه التدفقات (نفط، أسلحة، ديون) بين بنك أوف نيويورك وعوائد النفط الأنغولي، وذلك بفضل الإدارة الخفية تماماً لنظام لواندا. هنالك أعمالٌ دائمة بين بيير فالكون وبين غلنكور وباريبا ـ وقد قام جان ديدييه ماي بدور الموصل بين الجانبين. منذ العام 1993، قام أركادي غايداماك وشريكه الفرنسي بيير فالكون بتزويد القوات المسلحة الأنغولية بالأسلحة (أو بـ«المعدات المهلكة»). هكذا، اختفى 84 % من الديون الروسية! بدأت أنغولا في تسديد أصل الديون، بشرائح تبلغ 40 مليون دولار: بلغ المجموع حتى الآن مليار دولار (7 مليار فرنك فرنسي). والحال أنّ هذا المبلغ قد تبخّر هو أيضاً!.
أمّا الشركة السويسرية غلينكور والبنك الفرنسي باريبا (الذي يتزعم مجموعةً من اثني عشر مصرفاً من بينها بيه إن بيه وورمز وبنك بوبولير...) فهما في قلب نظام القروض التي يضمنها النفط المستقبلي لأنغولا بأسعار فوائد شديدة الارتفاع. في ربيع العام 2000، رفعت غلينكور قروضاً مضمونة لأنغولا بقيمة 3 مليار دولار، بالاشتراك مع مصارف مثل باريبا وسوسييتيه جينيرال ودريسنر بنك لوكسمبورغ.
مسؤولية صندوق النقد الدولي
والبنك الدولي في اختلاس أموال
شجب جوزيف ستيغليتز في كتابه «الخيبة الكبيرة» مسؤولية صندوق النقد الدولي والخزينة الأمريكية اللذين دعما ونصحا ووجها البيروقراطيين الروس المتحولين إلى الرأسمالية، لاسيما الرئيس بوريس يلتسين. «حين ضربت الأزمة، تولى صندوق النقد الدولي قيادة العمليات وطلب من البنك الدولي المساهمة في الإنقاذ» بقيمة 22.6 مليار دولار. وقد خضع البنك الدولي لضغطٍ سياسيٍ هائل من إدارة كلينتون الذي أراد بشدةٍ أن يقوم البنك بإقراض روسيا.
وإذا ما أخذنا أرقام روزا منديس، فإنّ 84 % من تسديد ديون أنغولا لروسيا قد تبخّرت! هكذا، فإنّ معظم المليار دولار الذي سددته أنغولا لا يوجد في خزائن الدولة الروسية. إذاً، ذهبت هذه الأموال إلى جيوب بائعي الأسلحة والوسطاء والسياسيين في أنغولا وفرنسا (باسكوا) وكذلك في روسيا.
يضيف جوزيف ستيغليتز أنّ إدارة البنك الدولي قد منعته من مقابلة المفتش العام للدوما الذي كان يزور واشنطن، وشجب منذ ذلك الحين مدى الفساد. «في البنك الدولي، تلقيت أوامر بعدم مقابلته: كانوا يخافون من أن تقنعنا أقواله».
يؤكّد ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في العام 2001 والرئيس الاقتصادي السابق للبنك الدولي، أنّ الاحتفال في صندوق النقد الدولي، أثناء التوقيع على عقد، كان رسمياً توقيع مذكرة تفاهم. والحال أنّ صندوق النقد الدولي هو الذي يملي بنود مذكرة التفاهم، لكن كان يجري إظهار أنّ «رسالة النوايا» تأتي من الحكومة المعنية. ويشرح أنّ المرحلة الأولى من خطة الإقراض للبلدان النامية هي «تبعية»، وفق كلماته. وهذا يعني الضغط على حكومات البلدان النامية كي تخصخص شركاتها الحكومية عبر بيعها بأسعار شديدة الانخفاض. في المقابل، تستطيع هذه الحكومات تلقي عمولة بنسبة 10 % في حسابٍ في سويسرا، تدفعها شركة الشمال التي ستشتري شركة الجنوب. يستعيد ستيغليتز مجدداً مثالاً لآلية التبعية غير الشرعية هذه، هو مثال تصفية الذمة المالية العائدة للدولة الروسية في العام 1995. هكذا نلاحظ تواطؤاً بين البنك الدولي وأكثر الدول الأعضاء فيه نفوذاً وحكام البلدان النامية والمصارف والشركات الخاصة الشمالية على حساب شعوب البلدان النامية. وإذا كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا يقومان بفعلٍ غير شرعي، فهم شريكان فيه لأنهما يعرفان آلية الفساد ويدفعان في هذا الاتجاه عبر لوي ذراع حكومات الجنوب.
وفق لورا راموس، «يقدّر أنّ الفساد يزيد وسطياً بنسبة 20 إلى 30 % كلفة السلع المشتراة»، والحال أنّه «يقدّر أنّ العمولة الشرعية لا تتجاوز قيمة 2 إلى 3 % من الكلفة الكلية للمشروع».. وفي حين تطالب المؤسسات الدولية البلدان النامية باجتثاث الفقر كشرطٍ لمنح قروضٍ جديدة، فإنّ مصارف الشمال والمنظمات الدولية التي تقودها بلدان مجموعة الثماني، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هي في قلب هذه الممارسات غير الشرعية.
صندوق النقد والبنك الدوليان..
الديون والفساد
تتراكم هذه الديون الموصوفة أيضاً بأنها غير شرعية نتيجة أفعال الفساد، لأنّ الأموال التي تقترضها الدول تحوّل على الفور إلى الحسابات الشخصية للحكام، أو مقابل خدماتٍ متنوعة يتم تقديمها على سبيل المثال إلى وسطاء يعملون في شركة عابرة للقومية، ما يزيد الدين الخارجي للبلدان المدينة.
في كثيرٍ من الأحيان، تكون المصارف التي تتلقى قروضاً غير شرعية متواطئة في هذه المناورات لأنّها هي التي تمول الفساد بصورةٍ عامة.. والتي تمنح القرض الذي يكون أصل الفساد وتضخم الدين الخارجي الذي سيدفعه شعب الجنوب المعني.
أواخر العام 2002، كشف تحقيقٌ أجري في وزارة الخزينة الأمريكية حول الدكتاتور التشيلي أوغوستو بينوشيه أنّ مصرف ريغز في الولايات المتحدة قد أخفى لمدة ثماني سنوات وجود حساباتٍ مصرفية باسمه بإيداعاتٍ تتراوح قيمتها بين 4 و8 مليون دولار، وأنّه ساهم في تأسيس شركتين وهميتين تعود ملكيتهما للدكتاتور، في الفردوس الضريبي في الباهاما لإخفاء حساباتٍ تمّ فتحها في مصارف واشنطن على نحوٍ خاص. لاشك في أنّ بينوشيه قد اختلس هذه الأموال، وزاد الدين الخارجي للبلاد الذي تضاعف خمس مرات أثناء وجوده في السلطة.
دينٌ لاشرعي يتراكم نتيجة اقتراضات الدولة لمصلحة أقليةٍ من السكان ومن المجموعات الاقتصادية المحلية أو الأجنبية مثل شركة تكساكو في الإكوادور. يسهم تأميم الديون الخاصة في دين النخب. باع فردينان ماركوس شركاتٍ حكومية في الفيليبين إلى أصدقائه، ثمّ عادت شركاتها إلى قبضة الدولة بديونٍ هائلة. ثمّ انسحب ماركوس إلى النمسا، وترك المصارف الحكومية في البلاد تسدد هذا الدين..
*تييري بروغفان: عالم اجتماع، مؤلف كتاب: الحركات الاجتماعية في مواجهة التجارة الأخلاقية، هيرميس / لافوازييه 2007.