سورية: إعادة الإعمار.. الخطة «ب».. والتوازن الدولي الجديد
مع اقتراب الحوار يقترب امتحان ما لدى القوى المختلفة، التي عامت على الدماء السورية، من رؤى حول حلول الملفات السياسية والاقتصادية والسياسية المتراكمة من قبل الأزمة وفي أثنائها. واحدة من أهم الملفات التي ستكون على طاولة الحوار هي ملف الاقتصاد السوري وتحديداً عملية إعادة الإعمار وآلياتها ومصادر تمويلها. فالخروج الآمن من الأزمة، بآثارها الكارثية على الحجر والبشر، سيتحدد بنموذج ومواصفات عملية إعادة إعمار البنية المادية للاقتصاد السوري من بنى تحتية وصناعة ومرافق اقتصادية.
فيما يلي نستعرض بشكل موجز بعض التجارب الناجحة لإعادة الإعمار لاستخلاص محددات نجاحها، وننتقل بعدها لاستعراض مصادر التمويل المختلفة الماثلة أمام سورية، لنختم بتبيان طبيعة مسألة إعادة الإعمار كمسألة تتجاوز محتواها الاقتصادي إلى كونها قضية سياسية بامتياز، وأن التعامل معها بالأسلوب المناسب يشكل إحدى المهام التي تقع على عاتق قوى التغيير وقوى الخروج الآمن من الأزمة.
محدد نجاح عملية إعادة الإعمار
عودة سريعة للتاريخ القريب فيما يخص تجارب إعادة الإعمار تسمح لنا باستخلاص الملامح العامة الواجب توافرها بسياسات إعادة الإعمار لضمان نجاحها. تجربتان أساسيتان تستحقان إلقاء الضوء عليهما، الأولى وهي التجربة الأكثر شهرة، وإن لم تكن الأكثر كفاءة، هي تجربة إعادة إعمار أوروبا الغربية. فلأن كانت الموارد الداخلية للدول الأوروبية بعيد الحرب غير كافية لاتمام عملية إعادة الإعمار بالسرعة الضرورية التي يفترضها «الصراع الوجودي» للرأسمالية مع الاتحاد السوفيتي، فقد تدخلت الولايات المتحدة عبر مشروعها الشهير «مشروع مارشال» لتأمين التمويل اللازم، رادمة الفجوة بين حجم التمويل اللازم، والمتوافر منه من موارد أوروبا الغربية الداخلية. لعبت الدول الأوروبية دوراً محورياً وتخطيطياً في إدارة وتنفيذ عملية إعادة الإعمار وما بعدها سواء على صعيد السياسات الصناعية النشطة جداً ومن ضمنها «الحمائية التجارية» وتقديم الدعم المباشر للمنشأت الانتاجية والقطاع الزراعي أوعلى صعيد التحكم بالقطاع المالي وجعل وظيفته الأساسية دعم وتمويل الانفاق الاستثماري والاستهلاكي الخاص منهما والعام. الأمر الذي انعكس بنسب نمومرتفعة جدا تجاوزت ١٥٪ في السنين الأربع الأولى بعد الحرب في فرنسا و٢٨٪ في هولندا خلال السنين الثلاث الأولى بعد الحرب.
في سياق الوضع السوري ومحاولات البعض دس السم في الدسم، لا بد من إلقاء نظرة خاطفة على السياق التاريخي الذي شكل الدافع وراء تبني الولايات المتحدة لمشروع مارشال سواء في أوروبا أومثيله في اليابان، لبيان استحالة أن يعيد التاريخ نفسه في الحالة السورية نتيجة تغير كل المعطيات الجيوسياسية. إذ أن الدافع الأمريكي لمشروع مارشال هووجود الاتحاد السوفيتي على اللوحة الجيوسياسية العالمية في حينه، وما افترضه ذلك من صراع وسم جميع العلاقات الدولية بسماته بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي. إذ عملت الولايات المتحدة الأميركية عبر هذا المشروع لتحقيق إعادة الإعمار بالسرعة القصوى كأداة لهدف استراتيجي جوهره إعادة بناء وترتيب البيت الداخلي الرأسمالي في سبيل:
- تفادي وقوع اضطرابات اجتماعية في أوروبا تحت وطأة الوضع الاقتصادي والدمار وشح التمويل (تحديدا بعد خسارة المستعمرات)، الأمر الذي يمكن استثماره من قبل الاتحاد السوفيتي، في بلدان ذات حركة عمالية وشيوعية بتقاليد نضالية عريقة، عبر تمدد «الشبح الشيوعي» لقلب الرأسمالية القديمة.
- التحضير للنموذج الاقتصادي- الاجتماعي للدولة الرأسمالية ما بعد الإعمار، وتحديداً تحقيق الحد الأدنى من مستويات من الرفاه الاجتماعي التي تسمح بتفادي تحول الاتحاد السوفيتي لمصدر إلهام لكادحي وعمال أوروبا.
- تثبيت القيادة السياسية والعسكرية للمعسكر الرأسمالي من قبل الولايات المتحدة وذلك من خلال الشروط التي رافقت مشروع مارشال التي فرضت على الدول الأوروبية أن تبقى قزماً عسكرياً، وأن تفتح أسرار صناعاتها للمعلم الأميركي.
التجربة الأخرى الناجحة لعملية إعادة الإعمار هي التجربة السوفيتية التي تمتاز عن التجربة الأوروبية بالاعتماد على مصادر تمويل داخلية بشكل كلي، وتتشارك معها بالدور المركزي للدولة بإدارة عملية إعادة الإعمار وإن كان أكثر كفاءة نتيجة التحكم الأعلى بالاقتصاد السوفيتي. إذ أنه وبحلول عام ١٩٤٨ تجاوزت حصة الفرد السوفيتي من دخله الوطني ما كانت عليه في عام ١٩٣٨ قبيل اندلاع الحرب، وهوما يعتبر انجازاً بكل المقاييس آخذين بعين الاعتبار أن المسرح الأساسي للحرب والمرحلة الأعنف منها تمت على الأراضي السوفيتية الأمر الذي أنتج دماراً هائلاً.
والجدير بالذكر هنا أن مقابل هذه التجارب الناجحة تمثل أمامنا التجارب غ