واشنطن تفكر: آسيا الوسطى وإعادة الاتصال الأوراسي
في هذه المادة، يقدم الباحثان، آندرو كوتشينز وجيفري مانكوف- من موقع «الحرص على الدور العالمي للولايات المتحدة»- نصائحهما وتوصياتهما للإدارة الأمريكية فيما يرتبط بسياستها في آسيا الوسطى، المنطقة التي تكتسي أهمية استراتيجية بالغة في إطار الصراع على النفوذ الدولي.
في هذه المادة، يقدم الباحثان، آندرو كوتشينز وجيفري مانكوف- من موقع «الحرص على الدور العالمي للولايات المتحدة»- نصائحهما وتوصياتهما للإدارة الأمريكية فيما يرتبط بسياستها في آسيا الوسطى، المنطقة التي تكتسي أهمية استراتيجية بالغة في إطار الصراع على النفوذ الدولي.
منذ أن غدت دول آسيا الوسطى كلها مستقلة في أوائل تسعينيات القرن الماضي، يمكن تقسيم سياسة الولايات المتحدة حيالها إلى مرحلتين متميزتين، تفصل بينهما الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول لعام 2001.
قبل هذا التاريخ، عملت الولايات المتحدة على فتح الاستثمار الأجنبي في آسيا الوسطى، وبناء خطوط أنابيب جديدة للطاقة، بهدف تقليل اعتماد دول المنطقة على روسيا. وأكدت واشنطن مراراً على أن سياساتها تهدف إلى تأمين سيادة واستقلال دول آسيا الوسطى الخمس، مع تكريس بعض الجهد لتعزيز «الديمقراطية»، وسيادة القانون، كجزء من جهد أوسع لتشجيع «التحولات الديمقراطية» عبر أراضي الاتحاد السوفييتي السابق.
بعد هجمات أيلول، تحول تركيز واشنطن بشكل كبير إلى الأمن في آسيا الوسطى، على اعتبار أن المنطقة تشكل الخلفية الاستراتيجية الحاسمة للولايات المتحدة، وعمليات «التحالف» في أفغانستان. إذ أصبحت آسيا الوسطى طريق عبور بالغ الأهمية لتوريد السلع العسكرية والإمدادات الأخرى إلى أفغانستان، وبشكل خاص بعد افتتاح شبكة التوزيع العسكري الشمالية في عام 2009.
الصين تلبي حاجات المنطقة
اليوم، ومع تقليص العمليات القتالية في أفغانستان، فإن سياسة الولايات المتحدة تجاه دول آسيا الوسطى في طور الانتقال إلى الحقبة الثالثة. وللولايات المتحدة الآن فرصة لإعادة تشكيل نهجها في المنطقة. وخلال القيام بذلك، تنبغي الاستفادة من الاتجاهات الجارية بالفعل، ولا سيما توسيع الروابط التجارية والعبور، للمساعدة في دمج آسيا الوسطى بشكل راسخ في الاقتصاد العالمي.
بالنسبة إلى دول أسيا الوسطى، فإن إعادة اتصال أوراسيا تمثل فرصة لا مثيل لها للتغلب على القرون الخمسة الماضية من العزلة. وآسيا الوسطى ذاتها لديها الكثير لتفعله إذا استثمرت بشكل كامل الفرصة التي تقدمها لها إعادة اتصال أوراسيا، لتصبح، على حد تعبير الخبير الاقتصادي، جوهانسن لين، «أرضاً متصلة» بدلاً من «أرضاً مغلقة».
وفي هذا الصدد، تواجه آسيا الوسطى تحديين على وجه الخصوص، الأول: هو بناء البنية التحتية المادية. فعندما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، ذهبت البنى التحتية في آسيا الوسطى كلها تقريباً شمالاً نحو روسيا، بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية وخطوط أنابيب الطاقة. ولحسن الحظ، شهدت السنوات الأخيرة تقدماً على هذه الجبهة. خط السكك الحديدية الجديد بين كازاخستان وتركمانستان وإيران خير مثال على ذلك، وكذلك خطوط أنابيب الغاز التي تربط تركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان (وقريباً قيرغزستان، وطاجيكستان كذلك) بالصين، والتي جرى تطويرها على مدى السنوات الخمس الماضية.
ولكن في حين أن بناء الجسور والطرق ومد خطوط السكك الحديدية والأنابيب هو ضروري، فإن هذه الأشياء تبقى ذات قيمة محدودة إذا كانت مترافقة مع «بنية تحتية ناعمة»- أي الأطر والاتفاقات القانونية والتنظيمية لتسهيل التجارة والنقل- ليست حديثة وفعالة. وهنا تغدو المشكلة الثانية ماثلة بانتشار البيروقراطية والفساد. والتصدي لهذه التحديات يمثل جزءاً كبيراً من رؤية «طريق الحرير الجديد» الذي أعدته إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما.
توصيات للولايات المتحدة
في حين أنه من غير الواقعي أن تكون الولايات المتحدة اللاعب المهيمن في المنطقة، على أساس بحثنا وسفرنا في آسيا الوسطى، فإننا مقتنعون بأنه من خلال استراتيجية أكثر تركيزاً على المزايا النسبية لدينا، مع الأخذ بعين الاعتبار مطالب المنطقة نفسها، فإنه من الممكن للولايات المتحدة لعب دور فاعل في المنطقة.
تركز حكومة الولايات المتحدة، كما يشير إلى ذلك عدد من الباحثين، على المناطق المتباينة من أوراسيا كل على حدة، في وقت يجري فيه التركيز بشكل قليل على أوراسيا ككل واحد. وعليه، يمكن للبيت الأبيض التحرك بسرعة لإنشاء مديرية مختصة بأوراسيا في مجلس الأمن القومي، مع المحافظة على المديريات الإقليمية القائمة، وينبغي لرئيس هذه المديرية أن يعزز مصالح الولايات المتحدة عبر أوراسيا، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز التجارة والمشاركة الاقتصادية.
على الرغم من أن حجم التجارة الأمريكية والاستثمار سوف يظل محدوداً نسبياً، إلا أن الولايات المتحدة لديها العديد من المزايا النسبية التي تود دول آسيا الوسطى أن تستفيد منها، بما في ذلك ثقافة الابتكار والتكنولوجيا والإدارة. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة أن تزيد من عدد الوفود التجارية إلى آسيا الوسطى، وأن تعمل على وضع برامج تدريبية منخفضة التكلفة لأصحاب المشاريع الإقليمية دون تقويض مبادرات الولايات المتحدة الحالية. وتكمن تلك المزايا النسبية خاصة في تطوير «البنية التحتية الناعمة»، لتبسيط عبور الحدود، والتخليص الجمركي، والتخلص من البيروقراطية بمساعدة من الشركات الخاصة.
تحتاج واشنطن لتعيير علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، لتعكس اهتمامهم في مجموعة واسعة من القضايا. وقبل كل شيء، لا تريد آسيا الوسطى أن تجد نفسها في موقف الاضطرار للاختيار بين العلاقات مع الولايات المتحدة من جهة، والعلاقات مع روسيا والصين من جهة أخرى، إذ سيكون الخيار في هذه الحالة مرجحاً لمصلحة جيرانها بالدرجة الأولى. لذا، يجب على الولايات المتحدة أن تتجنب الاقتراب من آسيا الوسطى على أساس سياسات الهيمنة، وأن تتجه نحو المشاركة بشكل فعلي.
سيفوتنا القطار إن بقينا بعيدين
على الولايات المتحدة إبداء التعاون مع القوى الدولية الرئيسية في مجال مكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات ومنع انتشار الأفكار المتطرفة، وهو ما بات معركة أساسية لا يمكن البقاء بعيداً عنها، أي أن تتجه واشنطن نحو التأقلم مع فكرة المشاركة والتعاون متعدد الأطراف، وهي بحاجة جدية إلى ذلك، لا سيما أنها تتحمل المسؤولية عن التبعات التي طالت آسيا الوسطى خلال فترة وجودها في أفغانستان.
كما يمكن للولايات المتحدة أن تعمل على ترسيخ علاقاتها مع دول آسيا الوسطى من خلال إيلاء الجانب الصحي أهمية وأولوية في العمل المشترك، حيث تعاني هذه الدول من انتشار الأوبئة والأمراض التي بات حلها وعلاجها في الولايات المتحدة سلساً على نحو متزايد، ما يُمكّن واشنطن من إيجاد موطئ قدم لها في عملية المساعدة، في إحدى الجوانب التي لم تجر عملية الاهتمام بها من قبل روسيا والصين حتى الآن. وعلى هذا النحو، يجب تركيز اهتمام الأبحاث الجامعية وأبحاث المراكز الاستراتيجية على هذه المنطقة، التي تعد واحدة من مناطق النفوذ العالمي التي سيلعب الصراع على النفوذ فيها دوراً بالغاً في تحديد ورسم معالم النظام الدولي الذي يشهد اليوم تحولات كبرى وعميقة.
*عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية- بتصرف