محمد جمال باروت محمد جمال باروت

العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح ماذا حصل لحصّة الفرد من الناتج المحليّ الإجمالي؟

ارتفعت في العشرية الأخيرة حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 2.9%، وهي تسمح نظرياً بمضاعفة حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي كلّ أربع و عشرين  سنة في حال استمرار معدّلات النموّ الاقتصادي والسكّاني الحاليّيْن.. لكن ما حدث هو تراجع هذه المعدّلات فعلياً، بل تراجعت في السّنوات الأخيرة بشكلٍ كبير لتزداد الفجوة بينها وبين مثيلاتها في دول الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول الدخل المتوسط، ولتقترب بشكلٍ أكبر من حصّة الفرد من الناتج في دول الدخل المتوسط الأدنى.

تراجع هائل بمؤشرات التنمية

يقدّر خط المعدل الحرج للنمو الاقتصادي بـ6% في شروط بلدان مثل مصر وسورية، ويتطلب معدلات نمو مستدامة لا تقلّ عن 8%، والاحتفاظ بها على مدى زمني طويل نسبياً يبلغ 25-30 سنة. وليس بلوغ ذلك مستحيلاً، فلقد اقتربت سورية منه في السبعينيات، واقتربت منه دول عديدة اعتمدت المنهج التنموي المؤسسي، ومهّدت لذلك بإصلاحاتٍ مؤسسيةٍ تمكينيةٍ بالاعتماد على تحويل «الادّخار الصافي» أو «الأصيل» تمييزاً له عن الادخار التقليدي، إلى استثمار تنموي. إن مفهوم الادخار الصافي ليس إلاّ مفهوم التعليم والتنمية المستدامة ووقف التدهور البيئي في مجال الادّخار.

ولعلّ المقارنة تنطوي على معنى التعلّم. فقد كانت مصر وسورية وكوريا الجنوبية في العام 1960 عند المستوى نفسه تقريباً من حصّة الفرد في الناتج المحلّي الإجمالي، أمّا اليوم فإنّ الناتج في كوريا الجنوبية يفوق عشرة أمثال الناتج المحلّي المصري. وكانت اقتصادات الجزائر ومصر وسورية والعراق أكثر تقدّماً، أو في موقع لا يقلّ تقدماً عن اقتصادات جنوب شرق آسيا في أواسط الستينيات، لكن أداءَها الاقتصادي سرعان ما تراجع بأضعاف عن القفزة التنموية الهائلة التي حققتها دول جنوب شرقي آسيا.

لقد كان ارتفاع الادّخار الصافي الذي نجم عن السياسات التنموية المؤسسية في تلك البلدان أحد أبرز مصادر تمويل الاستثمار، وتطوير إنتاجيته بالقيم المضافة، وتملك التقانة وتوطينها، وإطلاق طاقات معامل التنظيم المؤسسي التي تضيف نقاطاً عدة إلى الناتج المحليّ الإجمالي من دون الحاجة إلى القيام باستثماراتٍ ماديةٍ إضافيةٍ. ولذلك كان الترابط ضرورياً بين الادخار الصافي وبين زيادة حصة الفرد من الدخل. ويتضح أثر الادخار الصافي هنا في زيادة حصة الفرد من الدخل من خلال دوره في زيادة الإنتاجية، إذ تبلغ شدة الارتباط بين ارتفاع معدّل نمو دخل الفرد ونمو إنتاجيّة العوامل 93%. ويشكل رأس المال البشري والمعرفي والتقاني والمؤسسي والبيئي أساس ذلك ، بينما يتدهور الادخار الصافي في سورية بعد أن كانت سورية في السبعينيات والثمانينيات مصدراً أساسياً لبعض أهمّ أنواعه إلى البلدان العربية. ولقد ازداد هذا التدهور في العشرية الأخيرة، إذ تراجع من 13% في العام 2000 ليصل إلى 3% في العام 2008، بينما تراجع معدل الادخار التقليدي الإجمالي من 23% في العام 2000 إلى 13% في العام 2008. وبالتالي تراجع حجم الادخار التقليدي الممول للاستثمارات في العام 2008 إلى أقل من نصف ماكان عليه في العام 2000.

 

الفقر المطلق وتشوهات التوزيع

يقوم المنظور الاقتصادي للفقر على أنه مشكلة اقتصادية تتمثل في تدني الدخل قياساً على الاحتياجات الأساسية، وله نتائج اجتماعية وخيمة، وتتكثف هذه النتائج في عمليات «التهميش». وكان الاعتقاد أن السياسات ستجمع بين العمل على رفع معدلات النمو وعدالة التوزيع في وقتٍ واحدٍ، واعتماد نمط تنموي يقوم على النمو «المحابي» للفقراء وإعادة دمجهم في عملية التنمية.

ليست العلاقة بين ارتفاع معدّل النمو الاقتصادي الذي هو شرط للحدّ من الفقر، وبين انخفاض معدل الفقر ضرورية، فقد يرتفع معدل النمو الاقتصادي مع ارتفاع وتيرة الفقر حين تستأثر النخب والشرائح والطبقات القوية بقطف ثماره، ولا يتبقى للفقراء إلا التقاط الفتات منها. ولكن حين يكون معدل النمو ضعيفاً فإن الصراع على «الموارد الشحيحة» يغدو هو القاعدة، لأن «الكعكة» صغيرة. ويؤثر ارتفاع معدل النمو في الحدّ من الفقر عبر السياسات العامة التي تعمل على تقليص الفوارق التوزيعية للناتج المحلي الإجمالي أو الدخل القومي بين الطبقات والشرائح الاجتماعية بوساطة أدواتٍ مؤسسيةٍ توزيعيةٍ الأمر الذي يخفّف آثار النموّ السلبية،  في أثناء مرحلة التحول الاقتصادي،  في تشوهات التوزيع، ويجعل النمو محابياً ومناصراً للفقراء، ويمكّن الفقراء من تملك الأصول والاندماج في عملية التنمية. وهذه عملية اجتماعية كاملة، لكن لا تنفي الكلام عن أن مسألة الفقر ترتبط على العموم في كل مكانٍ من البلدان النامية بعاملين أساسيين مترابطين هما: النمو الاقتصادي وعدالة التوزيع.

في سياق عملية اختزال الإصلاح المؤسسي إلى برنامج تحرير اقتصادوي ليبيرالي متهالك على جذب الاستثمارات بأي ثمن، بغية رفع معدل النمو الكمي، ترك توزيع  ثمار النمو لعمل «اليد الخفيّة» (ديناميات السوق)، وبالتالي كان اهتمام السياسات برفع معدل النمو أكثر وأوضح من اهتمامها بعدالة التوزيع. وكان أقصى ما فعلته هو محاولة التدخل بمنهج «الإطفائي» لإصلاح ما يحدث من اختلالاتٍ توزيعيةٍ في مرحلة لاحقة، وعلى نطاقٍ محدودٍ، بينما كان واضحاً، حتى لدى واضعي السياسات أنفسهم، أن الطبقات والشرائح والفئات القوية هي التي تقطف عادةً، ولا سيما في ظروف التحوّل من الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق،  ثمار النمو في كل مكان تقود فيه هذه السياسات التحريرية الاقتصادوية عملية التنمية.

لم يكن مفاجئاً، في هذه الحال، ارتفاع نسبة السكان الفقراء (ما تحت خطّ الفقر الأدنى) وفق خط الفقر الوطني من 11.4% يشكّلون 2.043 مليون نسمة في العام 2004 إلى 12.3% في العام 2007، يشكّلون نحو 2.358 مليون نسمة من إجمالي السكان. ولا يمثّل هذا المعدّل المسجّل إلاّ الرأس الظاهر من «جبل الجليد» أو «البركان». ويبدو الفقر ظاهرياً، على مستوى المعدّل الإجمالي، «ضحلاً»، ويخصّ من يتم تصنيفهم «تحت خط الفقر الأدنى» الشديد أو المدقع، بينما يتمثل الجزء الثاني من القصة المؤسية في أن عملية التحولات الهيكلية هدّدت بقذف نحو 22% من إجمالي السكان يصنفون «تحت خطّ الفقر الأعلى»، ويشكّلون 4.218 ملايين نسمة وفق تقديرات العام 2007 أو ما يعادل 4.536 ملايين نسمة وفق تقديرات العام 2010، إلى ما تحت خطّ الفقر الأدنى، ورميهم في بيئةٍ محفوفةٍ بالمخاطر الشديدة، ومفعمة بالحرمان والقلق والاضطراب النفسي والسلوكي والثقافي والاجتماعي ليغدو حجم من هم تحت خط الفقر نحو 7  ملايين نسمة، يمثلون 34.3% من إجمالي سكان سورية. وقد تولّت هذه المهمة عمليات خفض الدعم التمويني (صندوق استقرار الأسعار) ودعم المشتقات الوطنية من 16% في العام 2004 إلى 11% في العام 2007، لتتضافر مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والجفاف القاسي وارتفاع معدل التضخم كما سنبين ذلك في فقرة آثار الأزمة المالية الدولية.

مع ذلك يُعتبر الفقر في سورية ذا درجتين: درجة «الفقر الضحل» ودرجة  «الفقر العميق». وينتشر الفقر الإجمالي في الأرياف والمناطق العشوائية كلها، لكن تركز الفقر «العميق» يتخذ شكلاً مناطقياً واضحاً. فقد استمرّت المنطقة الشمالية الشرقية، وتحديداً إدلب وريف حلب ومحافظات الرقة ودير الزور والحسكة في الاستحواذ على أكبر عددٍ من الفقراء مقارنةً بالعام 2004 ، كما ازداد الفقر الشديد  العميق والإجمالي في المنطقة الجنوبية ولا سيّما في ريفها ما يشير إلى ظاهرة شبيهة بتونس، وهي فجوات التنمية المناطقية. وقد يفسّر ذلك أنّ شرارة الاحتجاجات انطلقت، على غرار تونس، من المناطق الأدنى نمواً، وكانت الأشدّ في درعا ومدنها وريف دمشق. وفي المنطقة الشرقية وريف المنطقة الشمالية وريف دمشق يتمفصل الفقر المادّي «العميق» مع ارتفاع معدّل الفقر البشري الذي تتكثّف فيه جوانب الحرمان من التنمية البشرية المستدامة.

 

اختلالات توزيع الدخل

ترافقت عملية إنتاج نمط السياسات التحريرية مع ارتفاع وتيرة الاختلالات في عدالة توزيع الدخل الوطني، ما أدّى إلى ازدياد عديد الفقراء. فقد أشار مقياس «جيني» إلى أنّ العشر الأدنى أي 10% من السكان، وحجمهم في العام 2007 يعادل  1,9 مليون نسمة، وهم الذين يقتربون من الواقعِين تحت خطّ الفقر الأدنى (الأسود)، ينفقون ما نسبته نحو 3.5%  فقط من إجمالي الإنفاق، بينما ينفق أغنى 10% نحو 27.3% من هذا الإجمالي، أي ثمانية أمثال ما ينفقه العشر الأوّل تقريباً.

صحيح أنّ مقياس «جيني» يعكس تفاوت التوزيع وليس تفاوت الغنى/الفقر، غير أنّ نتائجه تتمفصل هنا مع ارتفاع وتيرة الفقر. لقد أدّت التحولات إلى تركّز الدخل، كما يعكسه الإنفاق الاستهلاكي، في شرائح محدودة من السّكان. وصحيح أنّ مسألة عدالة التوزيع تختلف عن مسألة الفقر، حيث يمكن أن تخلو بعض المجتمعات من الفقر، لكن توزيع الدخل فيها متفاوت تفاوتاتٍ عاليةً، فإنّ ما لا يتوقّف عنده «الاقتصاديون» بشكل كافٍ هو حصيلة دروس تجارب الدول النامية، وحصيلة التجربة السورية في عدادها وهي أنّ سوء توزيع الدخل يترافق عموماً مع درجةٍ عاليةٍ من الفقر.

يأتي التضخّم في عداد ألدّ أعداء الفقراء. لقد نجم عن تضافر الآثار الموضوعية والسياسية في العام 2008 ارتفاع معدّل التضخّم في سورية إلى مستوى خطر وصل في العام 2008 إلى 15.15% بعد أن كان 10% في العام 2006. وكان العام 2008 على مستوى التضخّم وآثاره في الإفقار وتوزيع الدخل أسوأ أعوام العشريّة،  فقد  تراجع  معدّل الاستهلاك الخاصّ (الإنفاق العائلي الخاص على المشتريات من سلع وخدمات باستثناء الأراضي والمباني)  حتى غدا سالباً، بفعل الارتفاع الحادّ في أسعار المواد الغذائية  في العاميْن 2007 و2008 وازديادها في العام 2008  بمعدّل تجاوز  56% عن  العام 2000،  ودفعت ثمنه الفئات الوسطى والفقيرة والضعيفة وملايين من السّكان المحفوفين بمخاطر الانحدار من خط الفقر المدقع إلى الفقر الشديد الذي يصاحب معدلات التضخم المرتفعة عادةً، ويؤكد ما هو معروف وهو أن الفقراء والضعفاء هم الأكثر عرضةً لآثار اختلالات الاقتصاد الكلي التي تنعكس عليهم في شكل قذفٍ إلى بيئة الجوع والهشاشة والاقتلاع، وأن أيّ تغيّر في أسعار هذه السلع سوف يحدث أثراً جسيماً فيهم. وقد ارتفع معدل التضخم نتيجة إجراءات رفع الدعم ورفع سعر الطاقة والمشتقات النفطية وعدد كبير من السلع والخدمات الأخرى،  فلم يلتهم القدرة الشرائية للنقود فحسب، بل صار أداةً خبيثةً لتوزيع الدخل لمصلحة الأغنياء والأقوياء. ويمثل ارتفاع التضخم، بالنسبة إلى معدّل النموّ الاسمي، أحد عناصر الضعف في استقرار الاقتصاد الكلي السوري للفترة المدروسة، أي منذ منتصف التسعينيات حتى العام 2005،  وكان يتراوح بين 3% و6%، وبين -0.90% في العام 2000 و6% في العام 2005. ويقع وسطيها ضمن وسطيّ معدل التضخم في دول المنطقة والدول النامية المقدّر بين 4% و6.5% على التوالي، وكان يتراجع مع تراجع عجز الموازنة.

 

التضخم..

إن حساب التضخم والتعيين الدقيق لمصادره وعوامله، وتحديد الوزن الأكبر لهذا العامل أو ذاك بين العوامل النقدية والبنيوية هو من أكثر الحسابات في سورية إثارةً للالتباس جراء انحياز منتجي الأرقام إلى «الأدنى»، أي إلى خفض معدل التضخم للإيحاء بــ«قوة» الاقتصاد الوطني. فمن المعروف أن التضخم يرتبط بثلاثة أنواعٍ من الاختلالات: اختلالات الاقتصاد العيني أو الحقيقي، اختلالات المالية العامة، الاختلالات في عرض النقود، وهذه الاختلالات مترابطة التأثير فيما بينها.  وستبرز مشكلة التضخم أكثر مع توجه الكتلة الأساسية من الاستثمارات إلى الاستثمارات الضخمة في القطاع العقاري، والتهامها مورد الأرض المتاح والشديد المحدودية. وقد أدّى نموّها في كافة الدول العربية في فترة «الفورة المالية» النفطية العربية نتيجة ارتفاع العائدات النفطية إلى ارتفاع معدل التضخم؛ وقد أدت هذه الاستثمارات مع نمو القطاع العقاري إلى رفع سعر الإسمنت بنسبة 55% وإلى فتحه أمام الاستيراد.

عزّزت السياسات الضريبية تشوهات التوزيع. ففي عملية إصلاحية اقتصادية مؤسّسيّةٍ يمكن أن تجعل عملية إعادة التوزيع من النمو الاقتصادي محابياً أو منصفاً للفقراء وللفئات الوسطى الدنيا والفقيرة عموماً من خلال الضرائب والتحويلات والإنفاق العام الجاري والاستثماري وتوزيع الأصول لتمكين الفقراء من الوصول إلى الموارد، ومواجهة التقلبات التي يكونون عادةً ضحايا لها. لكن ما حدث خلال العشرية الأولى التي انقلب فيها الإصلاح إلى تحرير هو أن السياسة الضريبية قد انطلقت من مرجعية ليبيرالية مشوّهة قامت على خفض الضرائب المباشرة على الأرباح الحقيقية، بينما رفعت نسبة الضرائب غير المباشرة والرسوم التي تتحمّل عبْئَها الفئات الواسعة في المجتمع.

خفضت هذه السياسات الضرائب المباشرة، وهي الضرائب الأكثر إنصافاً في منظور العدالة الضريبية، إلى معدل يعتبر من أدنى معدلات الضرائب في العالم (بين 14% للشركات المساهمة العامة و27% لشركات الأشخاص، ومع ذلك استمرّ التهرب الضريبي مرتفعاً جداً, بينما زادت الضرائب النوعية الأخرى كضريبة الرواتب والأجور أو الضرائب غير المباشرة أو الرسوم الجمركية التي تتحملها فئات الشعب وتؤدّي إلى ارتفاع الأسعار وارتفاع تكاليف الإنتاج وضعف القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. وتمثلت حصيلة ذلك في تراجع نسبة الضرائب المباشرة إلى مجموع الضرائب من 69% في العام 2001 إلى 42% في العام 2008، كما تراجعت نسبة الضرائب المباشرة إلى الناتج المحلي الإجمالي بأسعار السوق من 13% في العام 2001 إلى 6.5% في العام 2008، في حين تضاعفت نسبة الضرائب غير المباشرة إلى الناتج أكثر من ضعفين خلال ثماني سنوات (2000-2008) حتى بلغت 8.8% في العام 2008، وهي نسبة مرتفعة جداً. بل حقّقت الضرائب غير المباشرة قفزات كبيرة خلال الفترة المدروسة، فقد نمَتْ في العام 2006 إلى 33.6 % وفي العام 2008 ازدادت إلى  35.3% . ومن الطبيعي أن ينعكس هذا النمو في صورة ارتفاع في مستوى الأسعار وزيادة في تكاليف الإنتاج وضعف الاستثمار وضعف القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، ويعادل التهرب الضريبي ضعفيْ الضريبة المحصلة. ولقد أنتجت هذه السياسة توزيعاً مجحفاً للدخل الوطني على مستوى مبدأيْ العدالة والإنصاف الاجتماعي. وشكّل ذلك أحد أبرز مفاعيل عملية التفقير وازدياد الكدح في المجتمع، وارتفاع نسبة من هم تحت خط الفقر.

يقابل ذلك محاباة القطاع الخاص ضريبياً تحت دعوى تشجيعه على الاستثمار. وجميع المكلفين فيه صغاراً أو كباراً متهربون ضريبياً. وهو ما يفسر تناقص الإيرادات الكلية والإيرادات الضريبية بصورة عامة (عدا العام 2006)، وهي معدلات منسوبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بسعر السوق، وتدنّيها بشكل يصل إلى 50% عن مستوياتها في الدول الأوروبية التي تتراوح نسبة الإيرادات الكلية إلى الناتج المحلي الإجمالي ما بين40 و50%  في أوروبا الغربية  و60-65% في الدول الإسكندنافية، كما تقلّ عن الدول المجاورة 30-35%. أمّا في سورية فعلى الرغم من أنّ مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي بلغت 64.9% في العام 2008 فإن الضرائب المباشرة التي سدّدها القطاع الخاص للخزانة العامة بالأسعار الجارية في ذلك العام لم تتجاوز 1.7% من الناتج، بينما سدد القطاع العام الذي تراجعت مساهمته في الناتج في العام نفسه إلى 35.3% ما يعادل 4.1%.

وهذا ما يفسّر أنّ الخطّة الخمسية العاشرة هدفت إلى بلوغ ميزانية الدولة 34% من الناتج المحلي الإجمالي إلاّ أنها لم تتجاوز 27%  منه نتيجة ضعف الإصلاح الضريبي وتأخر الإصلاح الإداري والمؤسسي، وضعف الشفافية والإفصاح، وفساد الجهاز الضريبي، و جمود إصلاح القطاع العام تقريباً.

 

إنها النيوليبرالية

إنّ العلاقة بين سوء توزيع الدخل وبين الفقر هي، في منظور العلوم الاجتماعية، سيرورة وعمليات اجتماعية تتخطى الأبعاد الاقتصادية البحتة. فبشيء من توسيع مفهوم الاستقطاب بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة على مستوى النظام الدولي، يمكن الادّعاء أنّ البرامج والسياسات والمفاهيم الليبرالية الجديدة التي قادت عملية تعولم النظام الدولي، ودفعت كافة البلدان إلى استبطان هذه البرامج في سياساتها التنموية «الوطنية»، قد أنتجت، في كل دولة، نوعاً من مناطقَ شماليةٍ غنيةٍ متدرجةٍ في شماليتها، ومناطق جنوبيةٍ فقيرةٍ متدرجةٍ في جنوبيتها. وينطبق ذلك على سورية، التي عزّزت تشوّهات مساراتها التنموية هذه الفجوة بين تلك المناطق.

 

مقتطفات من الجزء الثالث من دراسة مكونة من خمسة أجزاء..