إنـجازات وحقوق الشعب السوري هو المنوط بالدفاع عنها
تصاعد الجدل مؤخراً حول حزمة الإصلاحات السياسية المنشودة التي يجري طرحها تباعاً، حيث أدلى الكثير من القوى والأحزاب والأفراد بدلوهم حول مشاريع القوانين المطروحة، مبدين ملاحظاتهم ومحددين مواقفهم من هذه القوانين بكليتها أو ببعض تفاصيلها، سواء من الذين حضروا اللقاء التشاوري الذي عقد مؤخراً كمقدمه استطلاعية لوجهات النظر من أجل التحضير للآليات التي من المفترض انعقاد مؤتمر الحوار على أساسها، ليؤمن مخرجاً آمناً وسالماً للأزمة العميقة التي يمر بها وطننا وشعبنا، أو الذين لم يحضروا اللقاء التشاوري بسبب عدم توفر «الشروط الضروري توفرها قبل البدء بأي حوار» من وجهة نظرهم، والكل يعرف تلك الشروط حيث أُعلِن عنها في المؤتمرات التي عقدتها بعض أطراف المعارضة أو في التصريحات التي أدلوا بها لوكالات الأنباء.
إن اللقاء التشاوري بين الاختلاف الشديد في وجهات النظر حول القضايا التي جاءت في جدول الأعمال الذي وزع قبل البدء بالحوار، ومن بين القضايا الخلافية الأساسية ما يتعلق منها بالدستور السوري، وتحديداً المادة الثامنة التي أجازت أن يكون حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، والتي على أساسها جرى تكريس البنية السياسية ـ الاجتماعية، ومنها التحالفات السياسية الداخلية (الجبهة الوطنية) التي ضمت في صفوفها إضافة للأحزاب الأساسية رؤساء المنظمات الشعبية مثل اتحاد الفلاحين والاتحاد العام لنقابات العمال واتحاد الطلبة وغيرها، حيث برز موقفهم المعارض لما طُرِح حول تغيير أو تعديل المادة الثامنة من الدستور، ووصفوا الذين طرحوا مواقفهم من هذه المادة بأنهم متنكرون للإنجازات التي تحققت على مدى خمسة عقود.
فقد جاء في البيان الصادر عن الاتحاد العام لنقابات العمال، وكذلك ما جاء في جريدة الاشتراكي الناطقة باسم الاتحاد العام في عددها الصادر بتاريخ 20/7/2011: «إن ما استوقف ممثلي الطبقة العاملة من النقابيين المشاركين في الحوار سعي البعض إلى نسف كل ما تحقق على مدى الخمسين عاماً إضافة إلى الإصرار على عدم رؤية إلا السواد في المشهد السوري، وإشاحة النظر عن كل المحطات المضيئة في حياة قطرنا».
قاعدة انطلاق هامة
في الستينيات من القرن الماضي جرت تحولات هامة كان لها تأثير إيجابي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، حيث لم تكن المادة الثامنة موجودة بعد، وتمثلت التحولات باستكمال قرارات التأميم التي بدأها جمال عبد الناصر وشملت في الاقتصاد السوري (الصناعي، الزراعي، التعليم، المصارف)، حيث أمنت تلك القرارات القاعدة المادية العريضة لنشوء القطاع العام (قطاع الدولة) الذي لعب دوراً مهماً في تشغيل اليد العاملة ومجانية التعليم والصحة، وتأمين السلع الأساسية من خلال التحكم بمفاصل التجارة الداخلية والخارجية، وإيجاد الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء للريف السوري وفق الإمكانيات المتاحة والأولويات المحددة في ذلك الوقت، هذا بالإضافة إلى استملاك أراضي الإقطاعيين، واستكمال الإصلاح الزراعي وتعديل حيازة مساحات الأراضي الزراعية، حيث وزعت على الفلاحين وفقاً للإصلاح الزراعي أراض منها بسندات تمليك وأخرى بعقود إيجار، إضافة لذلك جرى التوقيع على (بروتوكول) إنشاء سد الفرات وملحقاته، الذي يعتبر إنجازاً عظيماً للشعب السوري بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي.
لقد لعبت تلك الإنجازات دوراً مهماً في توسع القاعدة الجماهيرية للنظام الجديد، حيث طرحت الكثير من الشعارات التي تعبر عن مصالحها مثل الأرض لمن يفلحها، واليد المنتجة هي العليا في دولة البعث، واستمدت النقابات قوتها من خلال الدور الذي أعطى لها للمشاركة في قيادة العملية الإنتاجية وحماية المعامل والشركات التي أممت، ومن هنا فإن النقابات استطاعت أن تحوز على مكاسب جيدة للطبقة العاملة أهمها توازن أجورها مع الأسعار السائدة للمواد الأساسية التي تحتاجها في معيشتها اليومية، مما جعل هناك استقراراً في مستوى معيشة العمال، وهذا ما عبر عنه المؤتمر /17/ للاتحاد العام لنقابات العمال المنعقد عام 1972 حيث أكد على: (أن رفع مستوى معيشة العمال، والنمو الاقتصادي يجب أن يسيرا في خطين متوازين صاعدين في آن واحد).
قطاع الدولة والحريات العامة
إن التوسع الكبير لقطاع الدولة في مختلف الاتجاهات الإنتاجية والخدمية والزراعية لم يقابله توسع في مجال الحريات العامة من حيث وجود القوانين الناظمة للحياة السياسية التي من المفترض أن يكون لها الدور الأساسي في حماية ما تحقق باعتباره ملكاً للشعب السوري وأداة تطوره ونموه اللاحق، واستعيض عنها بدور خاص لحزب البعث وفقاً للمادة الثامنة وللجبهة الوطنية التي ضمت عدداً من الأحزاب السياسية وفقاً للميثاق التي وافقت عليه تلك الأحزاب وأقرت العمل وفقه، حيث حدد الميثاق أوجه نشاط الأحزاب المنضوية في إطار الجبهة بصورة أفقدها وجهها المستقل، وقيّد حركتها في النضال اليومي بين الجماهير وخاصة في صفوف الطبقة العاملة، واقتصر النضال في إطار ما يجري من توزيع للحصص للمواقع النقابية بين أحزاب الجبهة، وأصبح الركض باتجاه تلك المواقع هو الأساس، ما أدى إلى تكون الكثير من الكوادر النقابية والعمالية وفقاً لهذا الشكل الجديد، وأصبحت المرجعية ليست مصالح الطبقة العاملة وحقوقها والنضال من أجلها، بل أصبحت المرجعية لمن عمل على إيصالهم إلى هذه المواقع، فقد لعب هذا الواقع الجديد على مدار سنوات طويلة إلى وجود هوة بين الطبقة العاملة وحركتها النقابية اتسعت باتساع المطالب والحقوق التي تتطور بتطور متطلبات الحياة اليومية ووعي الطبقة العاملة، حيث انتسب إليها أعداد متزايدة من العمال حملة الشهادات المهنية والجامعية.
المادة الثامنة من الدستور هل أمنت الحماية للمنجزات؟
لقد جرت تحولات عميقة وجذرية على كثير من المفاهيم التي كانت سائدة وهي تعكس طبيعة كل مرحلة وموازين القوى السائدة فيها، فعندما جرى تبني الاشتراكية كنهج سياسي اقتصادي فكان ذلك تعبيراً عن طبيعة القوى الفاعلة في المجتمع وما تحقق لها من إنجازات ومكتسبات (عمال وفلاحون)، ولم تظهر بعد ملامح تكون المولود الجديد الذي كان جنيناً في رحم القطاع العام وما نعنيه هنا هو تكوُّن البرجوازية البيروقراطية التي ستقود التحولات والتغيرات القادمة بتحالفها الجديد ليس مع الطبقة العاملة والفلاحين بل مع البرجوازية الطفيلية التي اغتنت وشكلت ثرواتها من تبادل المصالح المشتركة مع البرجوازية البيروقراطية، حيث كانت الطريقة نحو إعادة تدوير الأموال مرة أخرى ومراكمتها ومركزتها مستفيدين من المواقع المفصلية في جهاز الدولة حيث التحكم الكلي في كل القرارات والتوجهات الاقتصادية التي جرت الاستفادة منها واستغلالها إلى حد كبير في مراكمة الثروات، فقد شكلت نسبة الفائدة المحققة من الصفقات الاقتصادية ما يقارب الـ40% من الدخل الوطني، وهذه مبالغ كبيرة منهوبة لو تمت إعادتها والتحكم بها لحققت نقله نوعية في حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستعصية التي تتفاقم كلما جرى التوغل في تطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تم تثبيتها وتنفيذها على مراحل، ولعبت الدور الأساسي في تفجر بؤر التوتر الاجتماعي، وخاصة تلك السياسات التي تم اتباعها في إلغاء الدعم عن المشتقات النفطية وفتح الأسواق وتحريرها، وعدم إصلاح قطاع الإنتاج الحقيقي (الصناعي والزراعي) والمراهنة على القطاع الريعي باعتباره قاطرة النمو التي ستحل تلك الأزمات المستعصية والتي لم تحلها، ولن تحلها، وفقاً للنهج الاقتصادي المتبع والمتبنى.
لقد وُعِد الشعب السوري بأنهار من العسل من خلال الخطط الخمسية التي طرحت، ولكن ماذا جرى من نتائج على الأرض؟
ـ ازداد حجم النهب من الدخل الوطني وتقارب بنسبته 30%.
انخفاض مساهمة الصناعة في الدخل الوطني من 35% إلى 20%.
انخفاض مساهمة الزراعة في الدخل الوطني من 27% إلى 14.5%.
ارتفاع حد الفقر الأعلى إلى 40% من نسبة السكان.
ارتفاع نسبة البطالة ووصولها إلى ما يقارب الـ20% إلى 25%
توقف الكثير من الشركات العامة وتحقُّق خسائر كبيرة في ميزانياتها ويمكن أن نعطي مثالاً واحداً على حجم الخسائر والفساد في إحدى شركات القطاع العام النسيجية وهي الشركة الخماسية حيث بلغت خسائرها 1.135 مليار ليرة سورية.
ما نود قوله في النهاية أن الشعب السوري بتنوعه الواسع لا يمكن حماية منجزاته وحقوقه ومكاسبه إلا بتوفر فضاء سياسي صحي يمكن من خلاله الدفاع عن تلك الإنجازات، التي لم تحم ولم يدافَع عنها بوجود المادة الثامنة من الدستور، والتي بعدم وجودها أيضاً تمت تلك الإنجازات التي تحدثنا عنها، والتي ينطلق الاتحاد العام بموقفه من الذين انتقدوها واعتبر نقدها هجوماً عليها.
إن الوطن لا يمكن أن يحميه ويدافع عنه حزب ما، أي حزب، وإنما الذي يحميه ويحمي مقدراته وثرواته وأرضه وسماءه كل أبنائه الشرفاء والمخلصين والوطنيين الذين خبرهم الوطن في أوقات الشدة، وخبرهم الشعب في المنعطفات الحاسمة، وهذا يؤكد مرة أخرى أن النصوص لا يمكن أن تكون بديلاً عن القوى الحية في الشعب السوري، التي من حقها بأن تقول كلمتها وتمارس فعلها تحت سقف الوطن الذي هو من حق جميع أبنائه وليس من حق الناهبين والفاسدين الذين عملوا على مدار عقود على نهبه واضعاف لحمته الوطنية وتهديد سيادته نتيجة فعل الفساد الذي عاث في الأرض والشعب معاً.
إن الشعب السوري ينتظر أن يرى دولة ديمقراطية مدنية يسود فيها القانون على الجميع، وأن يعيش محققاً كرامته في لقمته وكلمته.