بوادر مخاض
أثبت الحراك الأخير على مستوى المنطقة والوطن، أن سورية ليست بمعزلٍ عن العالم والمنطقة وما فيهما من حراك ثوري وانفتاحٍ للأفق أمام الحركة الثورية..
أثبت الحراك الأخير على مستوى المنطقة والوطن، أن سورية ليست بمعزلٍ عن العالم والمنطقة وما فيهما من حراك ثوري وانفتاحٍ للأفق أمام الحركة الثورية..
عاد المواطنون السوريون بعد طول غياب للحديث في شأنهم الداخلي، وفيما كان دم السوري ينزف في الجنوب والوسط والشمال الساحلي، كان النقاش الحاد يدور في كل مكان حول الحدث ومسبباته ومآلاته وكيف يمكن معالجته، وهكذا حقق دم الشهداء والجرحى أول إنجازاته، وأعاد للسوريين واحداً من حقوقهم الضائعة، حق الحديث بصوت عال في الشأن السوري الداخلي.
كثرت المفاجآت في غمرة الحراك الشعبي العربي، وتنوعت مجالاتها لتشمل مختلف الملفات والقضايا، ولعل أبرزها كان حجم الثروات التي ملكتها عائلات الأنظمة المتساقطة، وأتباعهم، ورجال أعمال السلطة.. فمن أين أتت هذه الثروات، وأين تذهب، وأين كنا عندما تراكمت، وكيف نلغي ما خلقته من عوامل قوة، وتجييش، وزبائن، ومريدين، ومصفقين؟؟. كنا نعتقد أن الحراك السياسي الشعبي ظاهرة شمالية محصورة بشعوب العالم المتقدم، وبالمقابل الخمول السياسي ظاهرة عربية أو عالمثالثية فقط، وأثبت العكس، فهل هذا ينطبق على الفساد؟ هل الفساد مرتبط بأنظمتنا فقط؟ هل ينفصل عن الفساد في النظام العالمي، أم هو ذيل له؟
يودع الشعب السوري غير آسف حكومته الراحلة، الحكومة التي آذته بالغ الأذى وامتهنت كرامته وأدخلت الأسى في تفاصيل حياته اليومية، واليوم يسيطر عليه توجس كبير من القادم، وخوف مضطرد من تكرار لعبة (الكشاتبين) المعتادة التي يتم فيها استبدال الوجوه دون السياسات، ويبقى السؤال المعلّق: ما الذي يضمن للشعب حكومة أفضل وأداء مختلفاً؟ ومن الذي سيحاسب الحكومة السابقة؟
يقلل بعض السوريين أحياناً من أهمية المطالبة بضرب الفساد الكبير، ويتجاهلون دون قصد المفاعيل الكبيرة لهذا الاستحقاق على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وصحيح أن معظم السوريين التفوا مؤخراً حول شعار «الحرية» باعتبارهاختصاراً وتكثيفاً للمطالب، لكنهم حتى الآن لم يتمكنوا من تحديد العقبة الأكبر التي تقطع السبيل إلى تحقيق هذا الشعار.
يعرَّف الفساد على أنه استغلال المنصب والسلطة المخولة لأحد الأفراد، أو استغلال علاقة أو قرابة لأفراد في السلطة لخدمة المصالح والمنافع الشخصية، والسطو على أكبر قدر من الثروات بتسخير كل الظروف والقوانين لتأمين ذلك. ويعتبر الفاسدون أنفسهم فوق القانون وأقوى من السلطة، ويساند بعضهم بعضاً. أما في سورية فإن الفساد ظاهرة سياسية بامتياز، وارتبطت على مر السنين بالمنصب الإداري الحكومي على مختلف المستويات، حتى أصبحت وكأنها مشرعنة بالفطرة أو بشكل بديهي، وهناك فاسدون كبار أثروا على حساب الخزينة العامة للدولة وثرواتنا الوطنية ولقمة عيش السواد الأعظم من شعبنا الذي ازداد فقراً وتشرداً، ومن الفاسدين الكبار مَن بنى إمبراطوريته التجارية من خلال استغلال العلاقات والقرابة من مسؤولي الدولة، ووظف هذه العلاقات من أجل الحصول على تراخيص حصرية للاستثمارات التي تركزت في القطاعات الريعية الخدمية ذات النفع الخاص، والتي لا تنعكس عائداتها نمواً اقتصادياً على الصعيد العام، وأهم القطاعات التي تم استغلالها للريع الشخصي هي قطاعات الاتصالات والنفط والمصارف والتجارة ومشاريع البنى التحتية، ومن الفاسدين من حصل على تراخيص حصرية لتمثيل شركات أجنبية في سورية، أو أسس شركات وهمية للفوز بعقود تنفيذ مشاريع أو تراخيص الاستيراد والتصدير.
ا تزال المحاسبة في كافة المستويات غائبة، هذا المبدأ الذي نص عليه الدستور، وكذلك اعتمدته كافة اللوائح والأنظمة الداخلية للقوى والأحزاب السياسية دون استثناء، وعلى الرغم من التأكيد عليه -من حيث الشكل- إلا أنه لم يلق طريقه إلى التنفيذ إلا على المستويات الدنيا في أحسن الأحوال، من خلال سماع السوريين في الآونة الأخيرة عن طرد موظف بهذه الوزارة أو تلك بتهم الفساد، وقد يكون هؤلاء فاسدين فعلاً، ولكن بالمحصلة فسادهم من الحجم الصغير بالطبع، والذي لا يمكن تبريره بالتأكيد، ولكن يمكن اعتباره الأقل ضرراً للاقتصاد السوري وللسوريين من أنواع الفساد الأخرى، والسبب عائد لدخول مال الفاسد الصغير في الدورة الاقتصادية والاقتصاد السوري مجدداً، أي أنه ذو تأثير محدود على الاقتصاد الوطني، ولكن هذا لا يشرعن وجوده مطلقاً، بل أنه آلية لترتيب أولويات المحاسبة..
إعلان حالة الطوارئ يعني تفعيل قانون الطوارئ عندما تكون هناك حالة طارئة، وإذا كان تطبيق أحكام قانون الطوارئ يضمن الحفاظ على الأمن والاستقرار كما يقول الإعلام الرسمي السوري، فإن نصوصه تعني أيضاً تقييد المجتمع لمصلحة جهاز الدولة، حتى يتمكن جهاز الدولة من قيادة البلاد في أوقات الأزمات، وتعني بالمعنى الحقوقي توسيع نطاق صلاحيات السلطة التنفيذية، وأذرعها الأمنية على وجه الخصوص، على حساب السلطتين التشريعية والقضائية، وعلى حساب المجتمع المدني، فكيف يمكن أن تكون بلاد عاشت قرابة نصف قرن على هذه الحال؟ب
تداخلت الأحداث الأخيرة على الساحة السورية وفقاً لخلفياتها الاجتماعية الاقتصادية السياسية لتوصلنا لحالة ارتجاج في كل أركان الدولة السورية بعد فترة سبات وتهميش على مستوى القرارات الفاعلة استمرت لسنوات طويلة وصولاً إلى أحداث بدأ اشتعال فتيلها في حوران في الشهر الماضي، وما تزال تتفاقم حتى الآن..
ما يزال الإعلام الرسمي حتى اللحظة يتعامل مع ما يجري على أنه «مؤامرة خارجية كبيرة» فقط..