حسّيب حسّيب

الدور السلبي للثروة!

تداخلت الأحداث الأخيرة على الساحة السورية وفقاً لخلفياتها الاجتماعية الاقتصادية السياسية لتوصلنا لحالة ارتجاج في كل أركان الدولة السورية بعد فترة سبات وتهميش على مستوى القرارات الفاعلة استمرت لسنوات طويلة وصولاً إلى أحداث بدأ اشتعال فتيلها في حوران في الشهر الماضي، وما تزال تتفاقم حتى الآن..

ما حدث هو الامتلاء الكامل للكأس الاجتماعية للحد الأقصى (للشفة) من ممارسات اقتصادية اجتماعية أمنية عبر عقود من الزمن دون الإدراك لحجم هذا التراكم في الوجدان الاجتماعي وبالتالي غياب التصور لشكل رد الفعل لحظة تلقي هذه الكأس الممتلئة أساساً لحجم جديد متناه في الصغر.. فكانت التداعيات من شرارة في محافظة درعا بتفاصيل قصة باتت معروفة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.. بطلاها رجل أمن ومحافظ!.

وهكذا أخذ البعد الإصلاحي طبيعة رد الفعل بعد إدراك لحجم الفجوة بين الطبقة الفوقية والطبقة التحتية..

وكان أولها على المستوى الاقتصادي بإعلان زيادة خجولة للأجور لا تتجاوز 20% من الراتب الفعلي الذي يستلمه الموظف في القطاع العام.. لم تحاك الحد الأدنى لمستوى المعيشة، وقد ترافق ذلك مع ارتباك واضح على مستوى القرار (بدون أو مع تدفئة) مما أدى لتعديل الكتلة النهائية للراتب، مع حسمها نسبياً تجاه زيادة الزيادة على الراتب..

تأخذ الزيادة عاملين عند إقرارها، الأول الحد الأدنى للمعيشة الكريمة والثاني كيفية التمويل..

بلغ وسطي الزيادة 3000 ليرة سورية، وهو ما يقارب 1.116 مليار دولار بالسنة من خزينة الدولة السورية لموظفي قطاع عام، والبالغ عددهم التقريبي 1.45 مليون، وهي زيادة لم تتماشَ في حدها الأعلى حتى الآن مع مستوى الأسعار الملتهبة لعام 2011 وبالتالي الحد الأدنى لمستوى المعيشة للعامة من الناس.. راتب مع زيادته لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من ناتج محلي إجمالي نظري قدره 46 مليار دولار، تمركز معظم غنائمها في السنوات الماضية بأيدي قلة ضمن معادلة الثروة وتوزيعها، لأن العامة من الناس لم تتلمس في حياتها اليومية.. معدلات نمو وناتج مفترضين أعلنها وأصر على صحتها ما ظل يعرف طوال السنوات الخمس الماضية بـ«الفريق الاقتصادي» رغم التحذيرات العلمية من فئات واسعة من الاختصاصيين من هذه السياسات.

أما مصدر التمويل فيمكن أن يكون من مصادر التمركز الأعلى للثروة، وهو في اقتصادنا قطاعيا الفساد الاقتصادي والاتصالات.. ونظراً لصعوبة ضبط قطاع الفساد بالوقت المنظور أمام حجم المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية وضرورات التجاوب معها زمنياً وآنياً، فيبقى الخيار الثاني وهو التركيز على قطاع الاتصالات والمفترض لأنه تحت سيطرة الدولة بكامل أدواته، وبالتالي قدرة الدولة على إعادة السيطرة على مدخولاته من خلال القرار المناسب، الذي يمكن أن يحقق تغطية لإعادة هيكلة الاقتصاد المشوه عبر إعادة توزيع مدخولات هذا القطاع الهائلة لترميم الثغرات في اقتصاد يعاني ما يعاني.. وبالتالي إن المدخول الهائل المتركز في كل من المؤسسة العامة للاتصالات وشركتي الخليوي صاحبتي التنافس السلبي الطريف بينهما، هو حل سريع وبسيط يعيد ما تم سحبه من كميات هائلة من السيولة من أيدي العامة من الناس، والمقدر لعام 2010 بـأكثر من 2.2 مليار دولار (يتضاعف هذا الرقم مرات عديدة بحساب رجعي لسنوات سابقة)...

ولهذا الحل مبررات حسابية علمية، أولها كمي لأنه يستطيع تمويل كتلة الزيادة في الأجور البالغة 1.1مليار دولار تقريباً، وثانيها أن أكثر من 7 ملايين خط تقريباً متوفر في الخدمة الآن، والذي يعني أن لكل أسرة سورية 1.8 خط خليوي، بكلفة شهرية للخط الواحد 1500 ليرة سورية، وبالتالي خسارة من دخلها الشهري ما نسبته 12.6% على حساب الادخار أو الاستهلاك بكل مراحله. وهذه النسبة تظهر حجم التمركز العالي للثروة في مؤسسة الاتصالات وشركتي الخليوي.. ومكان هذا التمركز من جهة ثانية، وبالتالي دورهما السلبي في عملية الركود الاقتصادي الذي تمر به البلد بعيداً عن السياسات الاقتصادية المتبعة. ولإعادة الدورة الاقتصادية لمسارها الطبيعي (دخل- استهلاك –ادخار- استثمار...) يجب إعادة النظر في مكان هذه الثروة أولاً لإعادة توزيعها، وثانياً لدفع الدورة الاقتصادية باتجاه تفعيل قطاعات المختلفة، ورفع الضرائب إلى حد أعلى ممكن وصولاً إلى 100% على الأقل في هذه الفترة الحرجة، وتخفيض أسعار المكالمات الخليوية بحيث تنخفض نسبة الإنفاق إلى ما دون 12.6% من دخل كل أسرة سورية.. لنعيد على أرض الواقع ترميم جزء من خلل المعادلة أعلاه.

هذا في الاتصالات، أما القطاع الآخر، قطاع الفساد الاقتصادي، فلا بد من العمل بسرعة وجدية على إعادة تأميم مصارف القطاع العام (وليس الخاص) عبر إجبار المقترضين من المتنفذين المرتبطين بشبكة أمان حكومية تعفيهم من استحقاقاتهم عند وجوب التسديد على دفع مستحقات الخزينة، وهي تقدر هنا بالمليارات من الليرات السورية، وهي حل جزئي ومرحلي لإعادة ترميم جزء من هذا الاقتصاد المشوه.. وكل ذلك عبر قرار أو مرسوم شبيه بمرسوم الرواتب أو غيره الذي شهدناه في الأيام الماضية، مبني على أسس موضوعية ومبررات علمية حسابية متداولة بصورة أو بأخرى بين العامة من الناس، تخدم الاستقرار الاقتصادي، وبالتالي الاجتماعي، ويمكن أن تخرجنا جزئيا من الأزمة الطارئة..

فليس المهم أن يصنف أحدنا في دير شبيغل الألمانية من بين أغنياء العالم، بل الأهم أن يكون اقتصادنا معافى لا يأخذنا لأزمات اجتماعية كالتي نشهدها الآن...

ويبقى الوطن بخير عبر معادلة بسيطة: أن يخسر قلة تصنيفهم العالمي على حساب دوام صحة وطن واقتصاده ووحدة شعبه وأرضه واستقلاله وهيبته.