هل مبدأ المحاسبة مجرد حبر على ورق؟

ا تزال المحاسبة في كافة المستويات غائبة، هذا المبدأ الذي نص عليه الدستور، وكذلك اعتمدته كافة اللوائح والأنظمة الداخلية للقوى والأحزاب السياسية دون استثناء، وعلى الرغم من التأكيد عليه -من حيث الشكل- إلا أنه لم يلق طريقه إلى التنفيذ إلا على المستويات الدنيا في أحسن الأحوال، من خلال سماع السوريين في الآونة الأخيرة عن طرد موظف بهذه الوزارة أو تلك بتهم الفساد، وقد يكون هؤلاء فاسدين فعلاً، ولكن بالمحصلة فسادهم من الحجم الصغير بالطبع، والذي لا يمكن تبريره بالتأكيد، ولكن يمكن اعتباره الأقل ضرراً للاقتصاد السوري وللسوريين من أنواع الفساد الأخرى، والسبب عائد لدخول مال الفاسد الصغير في الدورة الاقتصادية والاقتصاد السوري مجدداً، أي أنه ذو تأثير محدود على الاقتصاد الوطني، ولكن هذا لا يشرعن وجوده مطلقاً، بل أنه آلية لترتيب أولويات المحاسبة..

ثقافة المحاسبة غائبة

إذاً: المحاسبة ما تزال غائبة عن ثقافة مؤسساتنا على اختلاف مستوياتها، من الإدارية، إلى التنفيذية، وصولاً للتشريعية، وخير دليل على هذا الغياب شبه الكامل، هو انتهاء خطة اقتصادية استمرت لخمس سنوات، وهي الخطة الخمسية العاشرة (2006 – 2010)، دون أن تتم محاسبة الحكومة على أخطائها الجسيمة، وفشلها في تحقيق الحد الأدنى من استهدافات هذه الخطة. وتشير كل المؤشرات الاقتصادية ومعدلات التنمية البشرية إلى هذا التراجع.. وهذا الإخفاق في الاستهدافات ليس قيد التكهن فقط، وإنما اعترفت الحكومة السورية به، وجاء ليؤكدها رئيس هيئة تخطيط الدولة خلال ندوة الثلاثاء الاقتصادي منذ ثلاثة أسابيع. فلماذا لم تحاسب الحكومة على فشلها، مع أن المنطق الطبيعي كان يفترض محاسبتها بعض النظر عن الأحداث الأخيرة التي أجبرت الحكومة على الاستقالة، ولكن دون أية محاسبة أو تحميل مسؤوليات، على الرغم من أن سياسات الحكومة هي التي كانت وراء الاحتجاجات والنقمة الشعبية، هذه الاحتجاجات التي تنطلق من مطالب محقة يفتقدها أغلب المواطنين السوريين اليوم؟! فإلى الآن لا نعرف لماذا تقتصر المحاسبة على صغار الموظفين دون محاسبة كبار المقصرين وحيتان الفساد الذين ينهبون ما يزيد عن 30% من الناتج المحلي الإجمالي في سورية؟!

 

تفعيل مبدأ المحاسبة ضرورة

إن تفعيل مبدأ المحاسبة في سورية ضرورة، وهذا ما أكده أحد الاقتصاديين عند سؤالنا له عن المطلوب من الحكومة الجديدة، فأجاب: المحاسبة، أي أن تتم محاسبتها، لأن المحاسبة هي الكفيلة بتحقيق النتائج الايجابية المرجوة، وهي التي تضمن عدم التقصير.. كما أن المواقف السياسية للعديد من القوى والأحزاب السياسية تنطلق من مبدأ المحاسبة، فالعديد من البرلمانيين في دول العالم –ومنها بلدان عربية- اعتزلوا العمل السياسي لفشل البرلمان في محاسبة الحكومة، وهو ما فعله أحد النواب المصريين في عهد حسني مبارك، كما أن مشاركة العديد من المعارضات في الحكومة كان يحددها مبدأ المحاسبة، فهناك معارضات في العديد من الدول انسحبت من البرلمان اعتراضاً على عدم محاسبة الحكومة، وهذا يؤكد على أهمية مبدأ المحاسبة أحد أبرز الغائبين في مؤسساتنا على اختلاف مستوياتها..

لقد أكد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث على مبدأ المحاسبة، والتي قيل إنها يجب أن تطال الجميع دون استثناء، ولكن هل تساءل أحدنا عن أسباب بقاء هذا المبدأ حبراً على ورق، دون أن يأخذ طريقه إلى التنفيذ على الرغم من إقرار أهمية وضرورة وجوده؟ فالإقرار بضرورة المحاسبة لا يكفي للمحاسبة، وهذا لا يبرر غيابها عن ساحة الممارسة في مؤسساتنا خلال السنوات السابقة، ولكن تفعيل هذا المبدأ بشكل جدي يحتاج إلى تعزيز مبدأ سيادة القانون، وتطبيقه على الجميع، فالجسم القضائي بحكم فساده، غير قادر على المحاسبة الشفافة والعادلة...

 

المطلوب عقلية رقابية مغايرة

كما أن المحاسبة تحتاج إلى عقلية رقابية مغايرة لعقلية الهيئة العامة للرقابة والتفتيش، والتي تقوم بالمحاسبة على أساس السند، وعلى مبدأ التصيد، فهذه العقلية الرقابية غير فاعلة، لأن المجرم كعادته يخفي دلائل سرقته ونهبه، فكم هم الفاسدون الكبار في سورية الذين نفتقد للمستمسك الحسي لفسادهم، ولكننا نكتشفه بشكل منطقي بثروات بعضهم التي توازي الموازنة العامة للدولة، والتي تم جمعها في عقد أو عقدين من الزمن في أحسن الأحوال؟.

كما أن تفعيل المحاسبة يحتاج إلى مؤسسات تشريعية (مجلس الشعب) فاعلة، فعلى الرغم من كل القرارات الحكومية التي أثقلت كاهل السوريين، وضاعفت أعباءهم المعيشية، ورفعت الدعم عنهم دون مبرر، إلا أننا لم نجد مطالبة من مجلس الشعب لاستجواب الحكومة، أو مطالبة بحجب الثقة عنها أو عن أحد وزرائها، وهذا من صلب مهام مجلس الشعب لدينا..

كما أن الوصول إلى محاسبة فاعلة، يحتاج إلى قانون إعلامي متطور، ومؤسسات إعلامية ذات سقوف مرتفعة، يسمح لها الخوض والحديث عن مواطن الفساد في مؤسساتنا واقتصادنا، دون الخوف من سجن محرر هذه المادة أو تلك، ودون التلويح بإغلاق هذه الصحيفة الإعلامية عند الحديث عن هذا الفاسد أو ذاك، فكم هم الفاسدون الذين تلطوا بدعوات قضائية رفعوها على هذه المؤسسة الإعلامية أو تلك لإخفاء فسادهم؟ وفي أغلب الأحيان كانوا هم الرابحين ليس لأنهم الأصدق أو الأنزه، بل لأن القانون يقيد الإعلام والإعلاميين بينما يتيح فساده التغطية والتعمية على هذه الطبقة الفاسدة وعدم محاسبتها!!

لطالما ظلمت الحكومات السورية المتعاقبة الشعب بقراراتها دون أن يتاح أو يحق لهذا الشعب محاسبتها عبر المؤسسات المنوط بها المحاسبة، وهذا ما يجب ألا يستمر مهما كانت الظروف..

hassan@kassioun.org