الحراك الشعبي العربي يفضح أرقام الفساد.. المركز والأطراف.. معادلات الثورة والثروة

كثرت المفاجآت في غمرة الحراك الشعبي العربي، وتنوعت مجالاتها لتشمل مختلف الملفات والقضايا، ولعل أبرزها كان حجم الثروات التي ملكتها عائلات الأنظمة المتساقطة، وأتباعهم، ورجال أعمال السلطة.. فمن أين أتت هذه الثروات، وأين تذهب، وأين كنا عندما تراكمت، وكيف نلغي ما خلقته من عوامل قوة، وتجييش، وزبائن، ومريدين، ومصفقين؟؟. كنا نعتقد أن الحراك السياسي الشعبي ظاهرة شمالية محصورة بشعوب العالم المتقدم، وبالمقابل الخمول السياسي ظاهرة عربية أو عالمثالثية فقط، وأثبت العكس، فهل هذا ينطبق على الفساد؟ هل الفساد مرتبط بأنظمتنا فقط؟ هل ينفصل عن الفساد في النظام العالمي، أم هو ذيل له؟

عالمية الفساد

يجتمع نادي بيلدبيرغ سنوياً، ويضم الاجتماع أباطرة المال القلائل في العالم، مع أهم الموظفين والمريدين من سياسيين وأكاديميين ومنظمات غير حكومية ومنظمات اقتصادية عالمية وجهات مانحة ورؤساء دول مرشحين وسماسرة أنظمة دول العالم الثالث... يعكس هذا النادي وغيره، درجة التنسيق والترابط العالية بين مفاصل النظام العالمي، والتي تعمل على توجيه وتوظيف كل المؤسسات العالمية بغض النظر عن اتجاهاتها، أو تحاول أن تربطها وتجردها من احتمالات الاستقلال النسبي. يعطي هذا التنسيق الضوء الأخضر لكل الفضائح المالية الكبرى، للجزر المصرفية المعزولة عن التشريعات العالمية، للفضائح اللاأخلاقية لواقع العمالة في الشركات العالمية، للتجاوزات البيئية الخطيرة لشركات النفط وغيرها، للأموال المدفوعة لنحت الديمقراطية والديمقراطيين وتكييفها، وغيرها من علامات قيام الساعة على النظام الرأسمالي المتعفن. أما نحن، فأين موقع الفساد الحكومي لدينا من هذه الآلية؟ وهل من الممكن أن تخرج هذه المبالغ الضخمة من الثروات عن التوظيف في النظام العالمي؟

أنظمة دول العالم الثالث

الدول المستقلة بعد تفتت الاستعمار القديم، وجدت نفسها أمام خيارين أساسيين في التوجه الاقتصادي: الرأسمالي، أو اللارأسمالي (رأسمالية الدولة).

التوجه الرأسمالي: الهادف بشكل رئيسي لإبقاء الدول النامية في الموقع المخصص لها ضمن التقسيم الدولي للعمل، والذي كانت الولايات المتحدة، عن طريق البنك الدولي المنظر الرئيسي لسياساته المتركزة في اتباع الإقراض والديون الخارجية كمصدر للموارد، رافقها خلق وابتكار وسائل لتفريغ رؤوس الأموال المصدرة من إمكانيات تحقيق التراكم والتنمية بطرق مختلفة، كتقديمها من جانب شركات عالمية مقابل حصر الاستخدام بما يخدم هذه الشركات من بنى تحتية، معامل، استيراد بضائع... أو عن طريق توجيه هذه الأموال للتوظيف الخارجي كأسهم في رأس مال الشركات، أو بسياسات التسليح، إلا أن أهم وسائل تفريغ المال والأكثر عائدية على الموردين، كانت بالمال السياسي، أي خلق قنوات فساد في الأجهزة التنفيذية الحاكمة، تمتص هذه الأموال، وتعيد تصديرها للتوظيف في الخارج، وهي الآلية الأكثر جدوى، حيث تؤرّض كل احتمالات التطور والإنتاج الحقيقي، وتجند الفئات الحكومية وتربطها ربطاً عميقاً عن طريق وحدة المصالح، وتعيد الموارد مضاعفة إلى منابعها الأصلية، ما حقق تحول الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية في هذه الدول إلى كمبرادورات (أي أنظمة رأسمالية طرفية ملتزمة بالتبعية للرأسمال العالمي) ذات هياكل رأسمالية مشوهة لم تستطع الخروج من دائرة الدين، النهب، التبعية، الإفقار.. وهو مآل مصر التي أتاحت سياسات البنك الدولي خلق منظومة هائلة من قوى الفساد المحصنة ضد كل آليات الرقابة لم يتمكن الحراك الشعبي الهائل حتى الآن من الخلاص منها، ولن يتمكن إلا بفضح كل وسائل التفافها.

التوجه اللارأسمالي (رأسمالية الدولة): وهو ما يقارب النموذج السوري، والذي اعتمد على بناء جهاز دولة اقتصادي إنتاجي واسع، إلا أن عامل الخلل الرئيسي تمثل بعدم القدرة على تطوير آليات التراكم الذاتي والاعتماد على الإعانات والمال الخارجي أيضاً، وهو ما خلق جهازاً إنتاجياً معاقاً ومعتمداً على دفعات خارجية عملت على تغطية عيوبه التي انكشفت بزوال الريع السياسي الذي أمّنه ظرف سياسي عالمي محدد. لم تكن أجهزة الدولة التنفيذية أقل فساداً، لأنها لم تتح رقابة أكثر، إلا أنها تمتعت باستقلال نسبي أوسع. إلا أن الفساد وجهاز امتصاص الموارد والثروات خلق شروط الاندماج ووسع باتساع النهب، تقاطع مصالح قوى الفساد المحلية مع مصالح رأس المال العالمي، وهو ما تعكسه أرقام رؤوس الأموال السورية على سبيل المثال في الخارج، وما يعكسه السير الواضح على خطا الليبرالية كخطة اقتصادية تتيح اقتصاديا توسيع دائرة الفساد والعمالة، وبالتالي تضييق دائرة استقلال القرار الاقتصادي والسياسي، وتحقق اجتماعياً درجة عالية من الاحتقان الواسع الناتج عن الفقر، مما يسهل استخدام «الفوضى الخلاقة» والتفتيت.

توظيفات أموال الفساد: لا تستطيع قوى الفساد أن تقوى وتهيمن إلا بتغلغلها داخل جهاز الدولة، مستخدمة حصانته وآلياته، بل ربما لا تستطيع أن تولد إلا من رحمه، الذي يضيق دائما على الأموال المنهوبة، وتنعدم تقريبا احتمالات التوظيف الداخلي لهذه الأموال نتيجة انخفاض ربحيتها، وهو ما يدفع هذه الأموال إلى البحث عن صفقات ذات ربحية عالية تتركز في القطاعات غير المشروعة، وأهمها تجارة السلاح والممنوعات، أو في القطاعات التي تحصل فيها على احتكارات ومواقع متميزة كقطاع الاتصالات في سورية، أو في قطاعات خدمية تستخدم كآليات لتبييض الأموال. إلا أن المصب النهائي لهذه الثروات ينتهي في الحواضن الاستثمارية والمالية تحديدا للنظام العالمي، لاعبة دوراً هاماً في تمركز الثروة وامتصاص ثروات العالم الثالث.

وقائع وأرقام ومقارنات

قدرت ثروة عائلة مبارك بحوالي 40 مليار دولار، وتركزت آليات تكونها وتجميعها بطرق مختلفة تتراوح بين العمولات وتصل للنهب المباشر للثروات المصرية.  وأبرزها شراء أراضي الجيش، شراء ديون الدولة عند انخفاضها عالميا وتحصيلها كاملة مع الفوائد، حصص الأسد من مناجم الذهب والبترول والغاز المصري التي لم تدرج في الميزانيات، بيع مؤسسات الدولة والسيطرة على موارد الخصخصة وغيرها..

يقدر الفساد في سورية بنحو 40% من الناتج المحلي، أي حوالي 900 مليار ليرة سنوياً، ويعتمد الأكاديميون في حسابه على نسبة تقديرية من الصفقات والعقود والمناقصات الداخلية، ولا يشمل هذا التقدير احتمالات الفساد المذكورة في مصر، لانعدام احتمالية تقديرها كالنهب المباشر للموارد، وعمولات صفقات الخصخصة، والقطاعات غير المشروعة.

من هنا لا ينفصل الفساد في سورية أو مصر أو أية دولة نامية عن منظومة الفساد والنهب العالمي، بل يشكل حلقة هامة جدا منها، تبدأ بالنهب ولا تنتهي عند الخيانة والعمالة والتجنيد. لذلك لا ينبغي التعامل مع الفاسدين بمعزل عن ارتباطاتهم لأن كل ما تملكه المنظومة العالمية من وسائل حماية ستستخدم في دعم هذه الفئات ـالتي تشكل صمام الأمان الوحيد وغير القادر على الانحراف عن سياسات ومتطلبات هذه المنظومةـ وسائل قد تكون متطورة ومضللة إعلامياً وسياسيا، بل وميدانيا سواء بالسلاح أو حتى بتيارات سياسية تبنيها كبدائل شكلية.