تغيير الوجوه دون تغيير النهج: بيان الحكومة السورية يؤكد المؤكد!
يعكس البيان الحكومي الأخير للحكومة السورية استمرار النهج ذاته الذي اعتمدته الحكومات السابقة دون أي تغيير يذكر، ورغم الحديث عن «الشفافية» و«الواقعية»، تبدو معظم مضامين البيان في العمق امتداداً مباشراً لسياسات التقشف والخصخصة والانسحاب التدريجي للدولة من التزاماتها تجاه الشرائح الأفقر من الشعب. وبالتالي، يمكن القول إن الحكومة الحالية، رغم تغيير الوجوه، لا تختلف في جوهرها أو سياستها عن الحكومات السابقة، حيث تعيد إنتاج ذات السياسات الاقتصادية `ذاتها، التي تعمق معاناة الأغلبية الساحقة من الشعب السوري.
من أبرز نقاط الضعف في البيان الحكومي افتقاره إلى التزامات واضحة وأهداف محددة بأرقام فعلية قابلة للقياس، وهو أمر يُعد أساسياً لأي خطة حكومية جادة تسعى لتحقيق تغيير ما. إلا أن البيان الحكومي، بالرغم من كثرة العبارات الإنشائية الفضفاضة، يبقى مبهماً وخالياً من أي معايير أو أهداف رقمية قابلة للقياس.
لقد قد غابت الأرقام المستهدفة في قطاعات حيوية كالنمو الاقتصادي، وتوفير فرص العمل، وضبط معدلات التضخم، وكذلك نسب التحسن المطلوبة في خدمات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية. والأمر البديهي في أي بيان حكومي هو أن تُفصح الحكومة عن نسب محددة لخفض العجز المالي، وزيادة الاستثمارات، وتقليل الفقر أو البطالة، وأن تحدد إطاراً زمنياً واضحاً لتحقيق هذه الأهداف. على سبيل المثال، في ظل أزمة الطاقة، لم يقدم البيان أي أرقام حول حجم الطاقة المتوقع توفيره، مكتفياً بوعود غير محددة بـ«تحسين إدارة الموارد».
وغياب هذه الأهداف يعكس مشكلة جوهرية في نهج الحكومة وما سبقها من حكومات، تتجنب عمداً تحديد أهداف ملزمة يمكن للشارع السوري ومجلس الشعب - ولو نظرياً - تتبعها ومساءلة الحكومة عن تحقيقها. هذا النمط من الغموض يوفر للحكومة مبررات مفتوحة لتسويف الحل الممكن لبعض المشكلات وتقديم تبريرات دائمة دون نتائج ملموسة.
إصرار على التخلي عن الدور الاجتماعي للدولة
يعكس البيان استمرار التوجهات الاقتصادية الرامية إلى ضرب القطاع العام، مما يثير التساؤلات مجدداً حول مدى التزام الحكومة بمسؤولياتها الاجتماعية تجاه الشعب، وخاصة الطبقات الفقيرة.
تشديد البيان الحكومي على إشراك القطاع الخاص في إدارة الاقتصاد الوطني واعتباره «شريكاً وطنياً»، يذكّرنا بالتشديدات المثيلة للحكومات السابقة، التي تبيّن أن كلامها عن دفع القطاع الخاص للأمام لم يكن يهدف إلى تعزيز دور القطاع الخاص المنتج، بقدر ما كان طريقاً لتقليص دور الدولة في القطاعات الأساسية، كالزراعة والصناعة. وذكرنا سابقاً في العديد من المقالات كيف كان أداء القطاع الخاص أسوأ بما لا يقارن بنظيره العام خلال سنوات الأزمة من حيث النتائج الكارثية وانخفاض نسب التوظيف. ويتضح أن البيان الحكومي الحالي يتجاهل هذه النتائج، معتبراً ما بين السطور أن الخصخصة ستؤدي إلى النمو، متغافلًا عن زيف هذه الفكرة وتأثيراتها الاجتماعية الكارثية.
ويدّعي البيان التوجه نحو دعم الفئات الفقيرة، لكنه في الوقت نفسه يستمر في إحالة سياسات الدعم إلى «إعادة هيكلة» تستهدف «توجيه الدعم لمستحقيه» عبر إجراءات وصفها البيان بأنها «عصرية وديناميكية». هذه الإشارة تنذر بتقليص الدعم المباشر، مما يثقل كاهل الطبقة المسحوقة التي تعتمد على دعم السلع الأساسية والطاقة.
استمرار الحجج الخارجية لتبرير الفشل الداخلي
رغم أن سورية تعاني من آثار واضحة للحرب والإجراءات القسرية الأحادية التي تفرضها بعض الدول، إلا أن البيان الحكومي يحاول تحميل هذه العوامل مسؤولية تدهور الاقتصاد بشكل كامل، دون أن يعترف بالإخفاقات الداخلية المتراكمة منذ عقود، ودون أن يعطي برنامجاً لتجاوزها.
تكرار هذا الخطاب، الذي يعتمد بشكل أساسي على التذرع بالعقوبات الخارجية، يفشل في الإشارة إلى جذور الفساد والبيروقراطية وسوء إدارة الموارد الوطنية، والتي زادت الأوضاع الاقتصادية تدهوراً. كان من المفترض أن تُقدّم الحكومة حلولاً ممكنة لرفع مستوى الإنتاج الوطني وتقليل الاعتماد على الواردات، غير أن البيان لم يتناول سياسات جادة لمعالجة العوامل الداخلية المسببة للأزمة، مما يثبت مرة أخرى عدم استعداد الحكومة الحالية لإحداث أية إصلاحات مهما بلغ حجمها.
فشل متكرر في معالجة أزمة الكهرباء والطاقة
يبدو أن الحكومة تتقن تدبيج العبارات العامة حول أن أزمة الكهرباء والطاقة هي إحدى المشاكل الرئيسية التي تعاني منها البلاد، لكنها تعجز عن تقديم حلول واقعية وجادة لمعالجتها. ويستمر البيان الحكومي بتكرار العبارات العامة حول إدارة «موارد الطاقة بكفاءة» و«التخصيص الأمثل للكميات المتوفرة»، لكنه لا يطرح أي آلية عملية لكيفية تحقيق هذا التخصيص ولكيفية تأمين حاجات الناس من الطاقة.
الواقع يشير إلى أن أزمة الطاقة في سورية ليست مجرد نتيجة للعقوبات الخارجية، بل هي نتيجة الفساد ورغبة الفاسدين بإعدام منظومة الدعم الاجتماعي وبشكلٍ خاص دعم الكهرباء، إذ فشلت كل وعود الحكومات المتعاقبة كلها حول الاستثمار في مشاريع الطاقة أو في بناء بنية تحتية حديثة. وقد أظهرت التجربة أنه لا يمكن لقطاع إنتاجي أن يستمر دون تلبية احتياجات الطاقة الأساسية، وكان الأولى بالحكومة أن تضع هذه الأزمة في صدارة أولوياتها بخططٍ واضحة وأرقام معلنة.
غياب رؤية شاملة للقطاع الزراعي والصناعي
لم يُظهر البيان الحكومي أيّ إرادة واضحة لإحداث تغييرات هيكلية تنعش قطاعي الزراعة والصناعة. فبدلاً من دعم الإنتاج الزراعي وضمان وصول المنتجات للمستهلك بأسعار مناسبة، يعتمد البيان على «حلول» عامة لا تتطرق إلى الأزمة الحقيقية التي تعاني منها الزراعة، ابتداءً من ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ندرة المدخلات، وليس انتهاءً بالتغير المناخي وعوامل الجفاف.
أما بالنسبة للقطاع الصناعي، فالبيان يكتفي بتكرار عبارات حول دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وكأن دور الدولة ينحصر في دعم هذه الصناعات، دون أيّ إشارة إلى ضرورة العودة عن سياسات تصفية القطاعات الإنتاجية التابعة للدولة التي جرت في عهد الحكومات السابقة، والواضح أنه سيستمر في عهد الحكومة الحالية. ونتيجة لذلك، يظل الاقتصاد السوري مكبلاً دون أن يقترب حتى من زيادة عوامل الاكتفاء الذاتي، وسيستمر في الاعتماد على الواردات الأجنبية التي تزيد من عبء العجز التجاري للدولة ويراكم ثروات هائلة في جيوب المحظيين المستفيدين من الاستيراد.
انعدام إجراءات عملية لمكافحة الفساد
رغم أن البيان يشير إلى مكافحة الفساد بشكل سطحي، إلا أن عدم إعلان آليات واضحة لتحقيق هذا الهدف يطرح تساؤلات عن مدى جدية الحكومة. لا يمكن لأي دولة أن تحقق تقدماً اقتصادياً حقيقياً دون القضاء على الفساد الكبير المستشري في مؤسساتها، والذي ينهب في الوضع السوري نسبة لا تقل عن 60-70% من الدخل الوطني، ويؤثر سلباً على الكفاءة الاقتصادية ويزيد من الفجوة الطبقية.
يستمر البيان بتقديم عبارات عامة لا تتجاوز «التطمينات» بأننا سنحارب «فساداً ما»، ما يوحي بأن الحكومة لن تتخذ خطوات جادة في هذا الاتجاه. وتبدو هذه الوعود أشبه بمحاولة لاحتواء الانتقادات لا التزاماً حقيقياً.
تهميش القطاع العام وتجاهل تأثيرات الخصخصة
أحد أكثر الجوانب المثيرة للجدل في البيان الحكومي هو التجاهل الواضح لأهمية القطاع العام في دعم الاقتصاد. بدلاً من توجيه الموارد نحو إصلاح القطاع العام وضمان قدرته على تقديم الخدمات الأساسية، يركز البيان على إشراك القطاع الخاص في مختلف المجالات الاقتصادية، بما في ذلك الصحة والتعليم والبنية التحتية. ورغم أن البيان يعترف بالاحتياجات التنموية الكبيرة، إلا أنه يضع القطاع الخاص في مقدمة الحلول الاقتصادية، مما يؤدي إلى تعميق الأزمة وتحميل الفقراء أعباء إضافية، بينما يتزايد التركيز على المكاسب المالية للمستثمرين.
الحكومة الجديدة امتداد للحكومات السابقة
لا يقدم البيان الحكومي الأخير أي تغيير جوهري يميز الحكومة الحالية عن الحكومات السابقة، بل يواصل السياسات ذاتها التي أثبتت فشلها في تلبية احتياجات المواطنين وحل الأزمة البنيوية في الاقتصاد السوري. ورغم الحديث عن «واقعية» و«شفافية»، تظل «الحلول» المطروحة بعيدة عن معالجة جذور الأزمة وتصب في مصلحة فئات محدودة على حساب الأغلبية.
يتضح من استعراض هذا البيان أن الحكومة الجديدة ليست سوى امتداداً للحكومات السابقة، تسير على النهج ذاته الذي يعتمد على الخصخصة وتهميش القطاع العام، وتحمّل المواطن العادي أعباء التقشف وتخفيض الدعم الحكومي. هذا الاتجاه المتزايد يفاقم الفقر والبطالة ويضعف الطبقة العاملة، مما يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي الاجتماعي، ويعزز الاعتقاد بأن تغيير الوجوه لا يعني بالضرورة تغيير النهج المتبع.
ومن المثير للسخرية أن البيان الحكومي يغرق في تكرار كلمات مثل «الواقعية» و«التنمية» و«الشفافية»، وكأن تكرارها هو الحل السحري لكل الأزمات. لكن، عند إحصاء عدد مرات ذكر «الفقراء» - الشريحة التي من المفترض أن يكون البيان معنياً بإنقاذها - نجدها بالكاد وردت، وكأنها واجب شكلي لا أكثر، بينما تزاحمها كلمات كـ«الاستثمار» و«القطاع الخاص». وبينما تستمر الكلمات الكبرى مثل «الوطنية» في الظهور، فإن ذكر «الفساد» و«الهدر» يأتي بشكل عابر ودون خطط واقعية، وكأنهما أمور هامشية لا تتطلب علاجاً جادًا.
يبدو أن البيان أشبه بتمرين لغوي، حيث استبدلت الالتزامات الحقيقية بإعادة تدوير كلمات رنانة لا تنعكس في الواقع، وكأن تكرارها كافٍ لطمأنة الشعب بأن الحلول قادمة وإن لم يعرف أحد متى وكيف!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1198