الاقتصاد البريطاني مستمرّ في أزمته ومشكلاته
مايكل روبرتس مايكل روبرتس

الاقتصاد البريطاني مستمرّ في أزمته ومشكلاته

ضمن متابعته الدوريّة لأبرز الأحداث الاقتصادية والماليّة في الغرب، يتناول الاقتصادي البارز مايكل روبرتس، الذي لديه خبرة عمل في أسواق لندن المالية لأكثر من 40 عاماً، الموازنةَ البريطانية الأولى التي يقدّمها «حزب العمّال» بعد انتخابه مؤخَّراً. تأتي أهميّة هذا الحدث في أنّه جاء في أعقاب ركودٍ اقتصادي ومشاكل تضخّمية يعاني منها الاقتصاد البريطاني، أدّت وتؤدّي إلى اضطرابات داخلية كبيرة، والتي لا يبدو بأنّ مؤسَّسات النظام الحاكم في بريطانيا، سواء من «المحافظين» أو «العمّال»، قادرةٌ على إعطاء حلول حقيقية لها.

ترجمة: قاسيون

قالت راشيل ريفز وزيرة المالية البريطانية «وزيرة الخزانة»، إنّ مقترحاتها بشأن الميزانية من شأنها أن تعمل على استقرار المالية العامة البريطانية، وتحفيز النموّ الاقتصادي، وتجنّب الإضرار بمستويات معيشة «العمال»، والبدء في عكس مسار الانحدار الكارثي في الخدمات العامّة في بريطانيا، بما في ذلك الخدمة الصحية الوطنية والتعليم والنقل والإسكان. فهل تستطيع حكومة حزب العمال الحالية أن تحقق أيَّ تغيير؟
اعترفت ريفز بأنّ نمو الإنتاجية والاستثمار في المملكة المتحدة هو الأدنى بين دول مجموعة السبع. لقد كان النمو الاقتصادي بائساً، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأقل من 2% سنوياً لأكثر من عقد من الزمان. فهل يمكننا أن نتوقع ارتفاعاً كبيراً في معدّل النمو هذا على مدى السنوات الخمس المقبلة لحكومة حزب العمال؟ على ما يبدو لا. وفقاً لريفز، سيتمكّن اقتصاد المملكة المتحدة من إدارة معدّل نموٍّ «متوسط» لبقيّة هذا العقد، عند 1.6% سنوياً في أفضل تقدير. لذا فهو ليس أفضل من ذي قبل! كما قال مكتب مسؤولية الميزانية «OBR» في مراجعة الميزانية: «إنّ سياسات الميزانية مجتمعةً تترك مستوى الناتج دون تغيير على نطاق واسع في الأفق المنظور».
وجد مكتب مسؤولية الموازنة أنّ نسبة الاستثمار التجاري إلى الناتج المحلّي الإجمالي، وهو الأدنى بين بلدان مجموعة الدول السبع الكبرى عند نحو 10%، لن يتغيَّر كثيراً بحلول نهاية ولاية هذا البرلمان، ولن تتمّ زيادة الاستثمار الحكومي أو حتّى تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار أيضاً.
وعلى هذا فإنّ الأمل في ارتفاع نموّ الإنتاجية سوف يتلاشى. إذ يتوقّع مكتب مسؤولية الموازنة أنْ يرتفع اتجاه نمو الإنتاجية «الإنتاج لكل ساعة عمل» من الصِفر إلى 1.25% في عام 2029. «وهذه زيادة كبيرة مقارنة بمعدل متوسط بلغ قرابة ثُلثَين بالمئة [%0.67] في العقد الذي أعقب الأزمة المالية. ولكنّها لا تزال أقلّ كثيراً من المتوسط الذي بلغ نحو 2.25% في العقد الذي سبق الأزمة المالية».
كل هذا يعني أنّ الموارد المتاحة لعكس اتجاه التراجع في مستويات المعيشة والخدمات العامَّة ضئيلةٌ في أفضل الأحوال، ولن تؤدِّي إلى إصلاح «بريطانيا المكسورة».

إجراءات تجميلية!

كانت ريفز حريصة على القول إنّ التضخم آخذٌ في الانخفاض، وكانت ملتزمةً بهدف بنك إنكلترا البالغ 2% سنوياً. ومع ذلك، فإنّ توقعات التضخم لن تؤدّي إلى تحقيق هذا الهدف حتى عام 2029! والواقع أنّ التضخم من المتوقع أن يرتفع في عام 2025. وبالتالي فإنّ الضغط على الدخول الحقيقية سوف يظلّ قائماً حتّى انتهاء ولاية هذا البرلمان. الواقع أن مكتب مسؤولية الموازنة يتوقّع أن ينمو الدخل الحقيقي المتاح للأسر «RHDI» بمعدل وسطي سنويّ هو نِصف بالمئة [%0.5] فقط (للفرد وسطياً وهو مقياس لمستويات المعيشة) على مدى السنوات الخمس المقبلة.
في ظلّ اقتصاد يتّسم بانخفاض معدلات النمو والإنتاجية، فإنّ كل ما تستطيع ريفز أنْ تفعله هو محاولة زيادة الضرائب والاقتراض الحكومي لتمويل المزيد من الإنفاق على الخدمات العامة. وقد اختارتْ أن تفعل هذا مِن خلال زيادة مساهمات الضّمان الاجتماعي التي يدفعها أصحاب العمل عن كلِّ عاملٍ يعمل لديهم. ومن المفترض أنْ يؤدّي هذا إلى جلب 25 مليار جنيه. كما تعمل ريفز على زيادة الضرائب على مكاسب رأس المال التي يدفعها المستثمرون الأثرياء عندما يبيعون أصولهم المالية. لم يعد بوسع الأجانب الأثرياء للغاية أن يزعموا أنّهم «غير مُقِيمين» لتجنّب دفع الضرائب على الأرباح في الخارج إذا كانوا يعيشون في المملكة المتحدة.
لكن لا توجد ضريبة ثروة على الأثرياء للغاية «والتي يمكن أن تَجمَع بسهولة 25 مليار جنيه سنوياً»، ولا توجد زيادة في الضرائب على أرباح الشركات «والتي تظلّ عند 25%»، ولا يتم رفع عتبات الإعفاء الضريبي مع التضخّم حتى عام 2028، لذلك سيدفع معظم العاملين المزيدَ من الضرائب من أيّ زيادة في الأجور. ستكون هناك «حملة صارمة» على الاحتيال في إعانات الرعاية الاجتماعية للحصول على 4 مليارات جنيه سنوياً، ولكن فقط التزام غامض بمعالجة التهرّب والإبطال الضريبي، وهو الذي يجعل الحكومة تخسر حوالي 25 مليار جنيه سنوياً.
سيرتفعُ الحدّ الأدنى للأجور إلى 12.21 جنيهاً. ووصفت ريفز الزيادة بنسبة 6.7% بأنّها «خطوة مهمّة» نحو خلق «أجر معيشي حقيقي للعاملين» - على الرغم من أنها أقل من الحد الذي يطالب به كثير من العمّال وممثّليهم.
كما قامت بتغيير ما أسمته «القاعدة المالية» الخاصّة بالاقتراض الحكومي. وتعهّدت حكومة حزب العمال بخفض ديون القطّاع العام، التي بلغت الآن نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي. تقوم ريفز بإعادة قياس هذا «الدين الإجمالي» إلى «دين صاف»، أي بعد الأخذ في الاعتبار الأصول الحكومية مثل المباني والممتلكات المالية. وهذا من شأنه أن يسمح لها باقتراض 50 مليار جنيه إضافيّة خلال بقيّة هذا العقد دون زيادة مستوى الدين.
قررت الحكومة البريطانية اقتراض المزيد من المال – ما يصل إلى 40 مليار جنيه هذا العام المالي، لتمويل الإنفاق الإضافي على المدارس، والخدمات الصحية الوطنية، والخدمات العامة. لكنّ الإنفاق الإضافي على الخدمات الصحية الوطنية، والإسكان، والنقل، وغير ذلك سوف يصاحبه أيضاً زيادة قدرها 3 مليارات جنيه سنوياً في القوات المسلحة وضمان دفع 3 مليارات جنيه سنوياً لأوكرانيا «طالما أن الأمر يتطلب ذلك».
لكن ما زال من غير الواضح ما إذا كانت مدينة لندن ومستثمرو السندات سيقبلون بهذا دون بيع السندات الحكومية ورفع تكاليف الفائدة. حتى الآن يبدو أنهم سعداء، ولكنّ مكتب مسؤولية الموازنة يعتقد أن عائدات السندات سوف ترتفع على مدى السنوات القليلة المقبلة لتظل فوق 4%، في حين أنّ سعر الفائدة لدى بنك إنكلترا سوف ينخفض فقط من نحو 5% الآن إلى 4%. وعلى هذا فإنّ أسعار الرهن العقاري وبطاقات الائتمان سوف تستمر في الضغط على مستويات المعيشة.
رغم اقتراض الحكومة من أجل الإنفاق على الخدمات العامة، فهذه الزيادة مقارنة بالمحافظين لم تتجاوز 1.5% سنوياً. النهج العام لم يتغيّر، والأمر متروك للقطّاع الرأسمالي للاستثمار والنمو. وكما قال ساهيل جاي دوتا: «لم يُظهِر حزب العمال أيّ إشارة إلى تغيير النموذج الحالي حيث يتمّ توفير البنية الأساسية الحيوية من قِبَل الشركات الخاصة. وقد تجنّبت العديد من هذه الشركات الاستثمار على مدى العقود الثلاثة الماضية، في حين زادت من أرباح الأسهم وعمليات إعادة الشراء ودفع رواتب المديرين التنفيذيّين. وبدلاً من مواجهة المشكلة، يبدو أنّ أولوية حزب العمال تتمثّل في تحلية المستثمرين والمطورين بمزيد من الأموال المتاحة بشروط أفضل»: أيْ عبر المزيد من الإعانات للشركات الكبرى المموّلة من خلال المزيد من الضرائب والاقتراض الحكومي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1199