نموذج الضرائب في سورية: كثرة جباية وسحب للدعم
لا يوفّر الممسكون بزمام القرار في البلاد فرصة دون محاولة زيادة مصادر الجباية، شرط ألا تمسّ هذه الجباية جيوب كبار الناهبين المتخمين بالثروة الوطنية. فمن اعتبار «النكول عن البيع» عملية بيع واجبة لضريبة البيوع العقارية، إلى رسوم «اقتناء حيوان أليف» وفرض «الفوترة الإلكترونية»، لا تتوقف مخيلة هؤلاء عن ابتداع آليات جديدة لزيادة مقدار الجباية المحصّلة من الناس. فهل عادت هذه الجباية لتخدم مصلحة أكثرية الشعب السوري؟
نظرياً، يمكن اعتبار الضرائب التي تفرضها الدول على أنواع محددة من الدخل والربح واحدة من طرق توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء. حيث يمكن أن تذهب عائدات هذه الضرائب إلى تمويل الدولة لمشاريع جديدة يجري من خلالها دفع النمو الاقتصادي في البلاد وتخفيف وطأة البطالة، أو أن تذهب مثلاً لتمويل الدعم الاجتماعي الذي تخصّصه الدولة لدعم الأجور والتعليم والزراعة والصناعة والخدمات وغيرها.. وبهذا، يجري نظرياً نقل جزء من الثروة من الأغنياء أصحاب الربح إلى أصحاب الدخل المحدود. لكن هذا أبعد ما يكون عن منظومة الضرائب في سورية التي تثبت الأرقام أن زيادة تحصيلها لم تنعكس بتحسين معيشة أصحاب الأجور في البلاد.
الجباية والتحصيل: ارتفاعات غير مسبوقة خلال بضع سنوات
إلقاء نظرة سريعة على واقع الضرائب في سورية كفيل بإثبات أن أصحاب القرار الفعلي كانوا على الدوام يسيرون في خطين على التوازي: رفع التحصيل الضريبي على ألا يطال فعلياً جيوب الناهبين الكبار من جهة، وسحب الدعم عن مستحقيه تحت حجج العجز المالي من جهة أخرى.
إذا نظرنا إلى نسبة الضرائب والرسوم من مجموع الإيرادات العامة للدولة الواردة في الموازنات، نرى أنها كانت تقارب 8.4% في عام 2014 (حسب موازنة ذلك العام، شكلت الضرائب حوالي 117 مليار ليرة من أصل الإيردات العامة البالغة 1390 مليار ليرة)، أما في موازنة العام الحالي 2022، فقد ارتفعت النسبة بشكلٍ كبير لتصل إلى 24% (حسب الموازنة، كانت الضرائب حوالي 3133 مليار ليرة من أصل الإيردات العامة البالغة 13325 مليار ليرة).
لكن المفاجأة الكبيرة كانت إعلان وزارة المالية أنه من المتوقع أن يصل التحصيل الضريبي إلى حوالي 5000 مليار ليرة سورية في نهاية العام الجاري، وأنه من المخطط أن يصل التحصيل إلى 7000 مليار ليرة سورية في عام 2023.
إذا صحّ هذا الكلام، فإنه يعني أن نسبة الضرائب والرسوم من الإيرادات العامة للدولة في عام 2022 هي ليست 24%، بل ستصل إلى 37.5% تقريباً. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن موازنة العام المقبل 2023 قدّرت الإيرادات العامة بحوالي 11690 مليار ليرة، فإن هذا يعني أن نسبة الضرائب والرسوم من الإيرادات العامة للدولة في العام 2023 ستصل إلى 59.8% تقريباً!
هل زاد الدعم كنتيجة لزيادة الجباية؟
كما قلنا سابقاً، فإن ارتفاع الضرائب بحد ذاته ليس هو المشكلة على الإطلاق، فلو كانت عائدات هذه الضرائب تذهب فعلياً لزيادة الإنفاق والدعم الذي تقدّمه الدولة لرفع سوية المعيشة في البلاد لما كان ليعترض أحد على ذلك، لكن هذا الارتفاع كان يسير بالتوازي مع عمليات تقليص طالت مجمل مطارح الإنفاق والدعم الذي تقدمه الدولة.
على سبيل المثال لا الحصر، وفقاً لتقديرات الموازنات العامة، فقد انخفض الإنفاق على التعليم من 1,712,709,300 دولار أمريكي في عام 2010 إلى 411,104,414 دولار في 2021، أي أن التقلص فاق نسبة 75.9%. وكذلك الحال بالنسبة إلى الإنفاق على الصحة التي انخفضت من 248,640,434 دولار في 2010 إلى 79,058,690 في 2021، وبنسبة انخفاض بلغت 68.2%. أما الإنفاق على الزراعة، فقد انخفض من 515,432,500 دولار في عام 2010، إلى 18,055,600 دولار في 2021، ما يعني أنه انخفض فعلياً بنسبة 96.4% تقريباً!
يجري ذلك في ظل مفارقات مثيرة للانتباه، مثل أن ضريبة الرواتب والأجور في البلاد - والتي تطال أكثرية الناس- تصل إلى حوالي 18% من الدخل، أما ضريبة الأرباح التي تدفعها شركتا الاتصالات فإنها عند حدود 14% وهنالك من ينادي باستمرار بمنح المزيد من التخفيضات الضريبية للشركتين ومثيلاتهما!
من أين يمكن تأمين إيرادات للدولة؟
صحيح أن هنالك ضرائب مرتفعة على بعض قطاعات الإنتاج، وتحديداً على بعض القطاعات الصناعية، إلا أن هنالك الكثير من المطارح التي تتمتع بالإعفاءات الضريبية أو بالتخفيضات والامتيازات دون وجه حق، وهؤلاء ممن يمكن تسميتهم بأصحاب الحظوة القادرين على تكييف كل القوانين والتشريعات في البلاد مع مصالحهم الخاصة، رغم أنهم الأكثر احتكاراً للثروة.
ولا يحتاج الأمر إلى كثير من البراهين لإثبات أن الضرائب المرتفعة لا تطال كل أصحاب الربح الكبار فعلياً، هذا عدا عن التهرب الضريبي الذي قدّرته وزارة المالية في بداية العام الجاري بما يقارب 200 مليون دولار، علماً أن الكثير من الجهات تقدر التهرب الفعلي بأعلى من هذا الرقم بكثير، هذا إن لم نتحدث عن أن كبار الفاسدين في البلاد يكدسون أرباحاً غير قانونية ناتجة عن التجارة بالاقتصاد الأسود وهي مواضع ربح محصنة من الضرائب بشكلٍ بديهي.
عندما لا تلعب الضريبة دورها في نقل جزء من الثروة من الأغنياء للفقراء، فإنها تفعل العكس من ذلك، أي أنها تتحوّل إلى طريقة لتأمين موارد إضافية ستذهب إلى جيوب كبار الفاسدين مجدداً عبر أقنية وشرايين الفساد المتعددة والتسهيلات والقروض التمييزية. ومع هذه الدورة اللامنتهية، لن يوفر المسؤولون فرصة لتذكيرنا في كل مناسبة بالعجز المالي للموازنة، وبضرورة زيادة الإيرادات الضريبية، متجاهلين أن أكبر مصدر متاح للإيرادات وهو جيوب الكبار المتربحين على حساب عذابات السوريين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1098