د. قدري جميل في ندوة الثلاثاء الاقتصادي: التطور الحالي لا يخدم التعددية بل يضعفها ويهدد بإزالتها!

قدم د. قدري جميل محاضرة هامة في إطار فعاليات ندوة الثلاثاء الاقتصادي بتاريخ 22/4/2008.. حول «التعددية الاقتصادية في ظل التطورات الحديثة»..

أكد د. جميل أن انسحاب الدولة التدريجي من الحياة الاقتصادية الاجتماعية، سيفقدها ليس فقط دورها وإنما سيؤثر على منحى تطور القطاع الخاص نفسه، ففي ظل دور إنتاجي حقيقي للدولة يمكن للقطاع الخاص أن يلعب دوراً مكملاً وهاماً في عملية التطور الاقتصادي، وفي حال حدث العكس، فإن ارتباط سورية بالسوق الدولية بشكلها الحالي الذي يغلب عليه الطابع المالي الطفيلي سيلقي بظلاله الكثيفة على منحى تطور القطاع الخاص، مما سيؤدي ضمن التشوهات الموجودة إلى زيادة وزن تلك القطاعات من القطاع الخاص التي لا تعمل مباشرة في الإنتاج المادي. وهذا المنحى بدأت تظهر ملامحه في السنوات الأخيرة مما يتطلب الإسراع بإعادة توجيه العملية الاقتصادية في الاتجاه المطلوب الذي يصب في مصلحة قطاع الدولة والقطاع الخاص الإنتاجي.

وفي نهاية المطاف فإن حجم وخطورة المشاكل التي تنتصب أمام سورية اقتصادياً هي التي ستحدد شكل التعددية الاقتصادية المطلوبة ومحتواها.

ولعل أهم النقاط التي توقف د. جميل عندها هي «الفقر ومستوى المعيشة»، حيث بيّن أن حل قضية النمو سيؤمن الموارد الكافية لحل قضية الفقر ومستوى المعيشة ضمن آجال زمنية معقولة، وعند وضع مؤشر وطني للفقر في سورية، يفترض أن تقوم مراكز البحث الطبية بحساب الحد الأدنى من السعرات الحرارية الضرورية للفرد. وسنعتمد المؤشر الذي وضعه مؤتمر الإبداع والاعتماد على الذات الذي أقامه الاتحاد العام لنقابات العمال في عام 1987. حيث حدد المؤتمر عدد السعرات الحرارية الضرورية للفرد بـ2400 حريرة/ اليوم، ونلاحظ أن الإنفاق اليومي للفرد على السلع الغذائية الضرورية لتأمين ذلك، يبلغ اليوم 97 ل.س. واعتماداً على كلفة الوجبة الغذائية المتوازنة، نجد أن إنفاق الفرد على السلع الغذائية يبلغ 2900 ل.س/ الشهر. وباعتبار أن متوسط حجم الأسرة السورية يبلغ 5.6 فردا،ً ينتج أن إنفاق الأسرة على السلع الغذائية يساوي 16296 ل.س/ الشهر، وهو ما يسمى خط فقر الغذاء. ويصعب تقدير كلفة سلة السلع غير الغذائية الضرورية لممارسة حياة طبيعية. إضافة إلى أن الوزن النسبي لهذه السلة يمكن أن يتغير مع الزمن ضمن الدولة الواحدة تبعاً لمستوى التطور الذي تبلغه هذه الدولة وتغير عادات الاستهلاك وتغيرات الأسعار التي تطرأ على السلع الغذائية وغير الغذائية. وباعتبار أن الإحصاءات الرسمية قدرت إنفاق الأسرة السورية على الغذاء بـ40 % من إجمالي إنفاقها، وبالتالي فإن إنفاق الأسرة على السلع غير الغذائية يساوي 10864 ل.س/ الشهر. من هنا نرى أن الإنفاق الإجمالي للأسرة السورية والذي يساوي 27160 ل.س/ الشهر، هو الحد الأدنى لمستوى المعيشة لوسطي الأسرة السورية، وسنسميه هنا خط الفقر المطلق حسب إنفاق الأسرة. وبمقارنة هذا الرقم مع أجر بدء التعيين في عام 2006 للعاملين في الدولة نجد أن دخول جميع العاملين في الدولة عند بدء التعيين تقع تحت خط فقر الغذاء. ولن يكونوا قادرين على تلبية الاحتياجات الغذائية الضرورية لتأمين السعرات الحرارية الضرورية لبقائهم مع من يعيلونهم على قيد الحياة.

سنعتبر أن مستوى المعيشة الوسطي يساوي 160 % من الحد الأدنى لمستوى المعيشة. وبالتالي فإن مستوى المعيشة الوسطي للأسرة السورية يساوي 43456 ل.س/ الشهر.

وبالمقارنة بين الرقمين، نجد أن ربط الحد الأدنى للأجور بالحد الأدنى لمستوى المعيشة يتطلب رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 458 % من مستواه الحالي.

إذا بلغ معدل النمو الاقتصادي الوسطي حوالي 3.5 % سنوياً خلال الفترة (1995 ـ 2004) فإن كتلة الأجور، بما فيها الحد الأدنى للأجور، سوف تنمو بمعدل نمو 3.5 % كما النمو الاقتصادي. وفي هذه الحالة، يمكن حل هذه المسألة بعد 34 عاماً. وإن وسطي الدخل يجب ألا يقل عن 31816 ل.س/ الشهر لكي يوازي تكاليف مستوى المعيشة الوسطي. إلا أن وسطي الأجور لم يتجاوز 6986 ل.س/ الشهر في سورية في عام 2005).

أما حل مشكلة البطالة فيتطلب التوسع في الاستثمار وتوسيع القاعدة الاقتصادية، فالدراسات تبين أننا بحاجة إلى30 % استثمار من الدخل الوطني لامتصاص الوافدين الجدد إلى سوق العمل ونسبة إضافية لامتصاص البطالة التراكمية مما يتطلب رفع عائدية الاستثمار إلى الحد الأقصى الممكن في الظروف الحالية. وتبين الدراسات الجدية أن العام الأول للخطة يتطلب حجم استثمار 387 مليار ل.س تتصاعد سنوياً لتصل إلى 623 مليار ل.س في نهاية الخطة لحل الموضوع جذرياً، أي اذا كانت الخطة العاشرة تقترح 1800 مليار ل.س استثمارات فضرورات القضاء على البطالة خلال فترة متوسطة (7 سنوات) تتطلب 3000 مليار ل.س، وهو غير مستحيل التحقيق في ظل دخل وطني حالي يتجاوز 1000 مليار ل.س. ولكن بشرط تعبئة الموارد الداخلية إلى الحد الأقصى وخاصة على حساب مخرجات الفساد الكبير الذي يقتطع من 20 ـ 40 % من الدخل الوطني.

واستنتج د.قدري في نهاية محاضرته أنه يجري الصراع في البلاد حول التطور اللاحق، وينعكس بالدرجة الأولى حول مصير القطاع العام والخاص اللذين يتمثل وضعهما اليوم بالشكل التالي:

ـ قطاع عام من حيث الشكل، أي من حيث الملكية القانونية، وخاص من حيث المحتوى، أي من حيث طبيعة وتوزيع أرباحه التي لا يستفيد منها بسبب النهب والفساد الذي يعاني منه المجتمع والعباد.

ـ قطاع خاص يغلب عليه الاتجاه للعمل في المجالات غير الإنتاجية وخاصة المصارف والتأمين والعقارات والمضاربات

وحول هذه القضية تتصارع ثلاثة اتجاهات:

ـ الاتجاه الأول: الذي يدعو إلى الخصخصة ويعبر عن نزوع يسعى لتحويل الشكل نهائياً، أي طابع الملكية القانونية، من عام إلى خاص، كي يتطابق المحتوى مع الشكل.

ـ الاتجاه الثاني: يريد إبقاء الأمور على حالها بحيث يبقى القطاع العام عاما من ناحية الشكل، وخاصا من حيث المحتوى، وإبقاء القطاع الخاص تحت وصايته بحيث يحافظ على القدرة على ابتزازه أو مشاركته بعيدا عن مصلحة البلاد الفعلية.

ـ اتجاه ثالث: يسعى لإبقاء الشكل عاماً وإعادة الطابع الاجتماعي للمحتوى عبر إلغاء الخلل بين الأجور والأرباح باتجاه ضرب مراكز النهب والفساد الكبرى - أي إعادة توزيع الثروة لصالح المجتمع - وهذا يعني عملياً إعادة تأميم القطاع العام، وهو مطلب شعبي واسع ولكن لا يعبر عنه الإعلام بالشكل المطلوب، وإعطاء القطاع الخاص الإمكانية كي يعمل في الاقتصاد الحقيقي. والسؤال: أي الاتجاهات سينتصر في نهاية المطاف؟

الأرجح أن الاتجاه الثاني ليس له حظ في الاستمرار إلا بقدر التوازن بين الاتجاه الأول والثالث، لأنه فقد مبرر وجوده التاريخي، أما ماعدا ذلك فهو متعلق بميزان القوى الدولي والإقليمي وبالمنحى الذي سيجري على أساسه الصراع الاجتماعي في الداخل، إن نقطة ضعف قوى الخصخصة الكبرى هي عزلتها الشعبية بسبب الشبهة التي تعاني منها في موقفها من القضية الوطنية، أما نقطة ضعف الاتجاه الثالث، فهي عدم قدرته عن التعبير عن نفسه بالشكل المطلوب بسبب تخلف مستوى الديمقراطية عن حاجات التطور الموضوعية.

ويبقى الأمر متعلقاً بنهاية المطاف بنسبة القوى الاجتماعية والسياسية التي ستحسم الأمر في هذا المنحى أو ذاك، ولاشك إذا حدث وانتصر الاتجاه الأول فإن ذلك سيعني خطوة كبيرة إلى الوراء بالمعنى التاريخي على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي».