د. منير الحمش د. منير الحمش

هدية الفريق الاقتصادي للعمال في عيدهم: الإعلان عن «تحرير التجارة الخارجية»!

أعلن وزير الاقتصاد والتجارة أن الوزارة استكملت «تحرير التجارة الخارجية» بعد أن أصدرت (جريدة الوطن الصادرة بتاريخ 1/5/2008) القائمة السلبية التي تضم المواد الممنوع استيرادها لأسباب صحية وبيئية ودينية وأمنية. وأوضح وزير الاقتصاد في تصريح للصحفيين «إن هذه الخطوة تأتي في إطار خطوات الإصلاح الاقتصادي التي بدأتها سورية منذ عام 2001، والتي شملت القطاعات المالية والمصرفية والسياحية والاستثمارية الهادفة إلى بناء اقتصاد متين منفتح ومندمج في الاقتصاد العالمي...».

ملاحظات أولية

قبل الحديث عن مقولة «تحرير التجارة الخارجية» ومخاطرها، وفيما إذا كانت تحمل أية مكتسبات، نورد الملاحظات التالية:

1 -  إن التصريح عن استكمال تحرير التجارة الخارجية أعلن في 1/5/2008، وهو عيد العمال العالمي، ولذا فهو يتضمن إيحاءات كثيرة، لعل أهمها عدم الاكتراث بالطبقة العمالية التي تعتبر أول المتضررين من تحرير التجارة الخارجية.

2 -  حسناً فعل وزير الاقتصاد عندما ربط تحرير التجارة الخارجية بالإصلاح الاقتصادي «الذي بدأته سورية منذ عام 2001» كما قال، ولم يربطه بنظام «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي أقرته القيادة السياسية في منتصف عام 2005. إن الإصلاح الاقتصادي طرح كشعار عام 2001، ولكننا لم نقرأ أو نعلم بوجود برنامج مقرر رسمياً. وإن كنا نعتقد أن هذا البرنامج موجود في أجندة (توافق واشنطن) ونصائح الاتحاد الأوروبي، وعقل وفكر «الفريق الاقتصادي». إلا أن اقتصاد السوق الاجتماعي، لا يشتمل بالضرورة (تحرير التجارة الخارجية).

3 - حدد وزير الاقتصاد والتجارة الهدف بأنه «بناء اقتصادي متين منفتح ومندمج في الاقتصاد العالمي».

 4 -  الملفت، أنه في هذا الوقت الذي تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية العالمية، وتبرز فيه أزمة الغذاء ويهدد الأمن الغذائي السلام العالمي، في هذا الوقت الذي تتصاعد فيه الحاجة إلى تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، يستكمل الفريق الاقتصادي تحرير التجارة الخارجية، مما يعني المزيد من الانسحاب الحكومي من الشأن الاقتصادي، وترك الأسواق للفوضى والاحتكار.

والسؤال: هل تحرير التجارة الخارجية يقود إلى بناء اقتصاد متين؟ وهل الاندماج في الاقتصاد العالمي من الأهداف النبيلة التي تقود إلى بناء اقتصاد متين؟ وهل تحرير التجارة «يُسهم في تطوير الصناعة السورية وزيادة قدرتها على المنافسة...» كما يقول معاون الوزير؟ الذي استكمل الصورة التي أعلنها الوزير بأن «تحرير المواد خطوة من الخطوات التي اتخذتها الحكومة بشكل عام ووزارة الاقتصاد والتجارة خاصة، تحضيراً للانضمام لمنظمة التجارة العالمية...» وهذه (بشرى) يستحق عليها الفريق الاقتصادي كل تقدير وثناء من جموع الفقراء والطبقة الوسطى ومن العمال والفلاحين، ومن الصناعيين والحرفيين والكسبة الذين انتظروا طويلاً سماع هذا الخبر المثير حول الانضمام لمنظمة التجارة العالمية!! 

إزالة قيود.. أم خنق للتنمية

إن التقدم بطلب للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لا يعني أن على البلد المعني أن يقوم باتخاذ إجراءات الانفتاح والتحرير دون الأخذ بنظر الاعتبار المعطيات الاقتصادية والاجتماعية الوطنية.. وللبلدان النامية وضعاً خاصاً أخذته بالاعتبار اتفاقية (الغات) التي بقيت سارية المفعول بعد قيام منظمة التجارة العالمية، التي راعت ظروف البلدان النامية، فوضعت بعض البنود والاستثناءات التي تساعد البلدان النامية على مواجهة التحديات التي تفرزها عملية الانفتاح الاقتصادي.

بداية لا بد لنا من الإشارة إلى أن «تحرير التجارة لا يعني حرية التجارة» الأمر الذي أوضحته منظمة التجارة العالمية نفسها.. ففي كراس يحمل الرقم /8/ صادر عن المنظمة عام 2001، أوردت المنظمة الحقوق الأساسية للبلدان النامية في ظل الغات ومنظمة التجارة العالمية. وتؤكد هذه الحقوق على أن «عضوية المنظمة» لا تعني الالتزام بإلغاء القيود المفروضة على التجارة الخارجية، مما يعني تجريد البلدان النامية من أهم سلاح في يدها لضمان التصنيع والتنمية.

إن إزالة القيود على الواردات تعني فتح الباب على مصراعيه أمام المنافسة مع صناعة البلدان المتقدمة التي تتمتع بآخر ما وصلت إليه التكنولوجيا، كما تتمتع بقوة مالية وتسويقية كاسحة بالمقارنة مع صناعات البلدان النامية، أي أن عضوية المنظمة وفق هذا المفهوم، تدفع البلدان النامية إلى معركة خاسرة، نتيجتها المعروفة الإضرار بالصناعة الوطنية وزيادة البطالة والتضخم، والضغط على أصحاب الدخل المحدود.

وتؤكد المنظمة في الكراس المشار إليه، أن فتح الباب على مصراعيه أمام المنافسة وتحرير التجارة على هذا النحو، غير صحيح، وأن السبب في هذا الفهم هو «ببساطة يعود إلى جهل بأحكام الغات واتفاق منظمة التجارة العالمية».

فالغات (كما تقول المنظمة) يفرق بصراحة بين نوعين من القيود التي تفرض على التجارة الدولية: الضرائب الجمركية من ناحية، والقيود الكمية وغير التعريفية من ناحية أخرى. أما القيود الكمية وغير التعريفية فهي محظورة بحكم المادة (11) من الغات. وأما الضرائب الجمركية فليس هناك التزام على الدول الأعضاء (النامية وغير النامية) لإلغائها أو تخفيضها، وبعبارة أخرى، فإن الغات لا يتضمن حكماً بالنسبة إلى الضرائب الجمركية شبيهاً بحكم المادة (11) بالنسبة للقيود الكمية وغير التعريفية. ومعنى هذا أن البلدان النامية حرة في أن تفرض ضريبة جمركية على الواردات التي لا تخضع لضريبة، ولها أن ترفع الضريبة الجمركية إلى أي مستوى تشاء، ولأي غرض تشاء، سواء أكان لحماية صناعتها الوطنية (وليدة أو غير وليدة) أو لتوفير إيرادات للخزينة العامة، أو لعلاج عجز في ميزان المدفوعات. هذه قاعدة أساسية من قواعد الغات، وهي ما زالت سارية بعد تأسيس منظمة التجارة العالمية. إذ أن الغات ما زالت نافذة المفعول، ويبدو أنها غائبة عن ذهن الذين (يزعمون) أن الغات يعني إرغام الدول الأعضاء على فتح حدودها أمام المنافسة دون قيد أو شرط.

ونشير هنا إلى أن القيد الوحيد الذي يرد على حرية البلدان النامية (أو غيرها) في استخدام سلاح الضريبة الجمركية، لأي غرض تشاء، هو ما يسمى (الربط) ومعنى الربط هو «أن تلتزم الدولة المعنية بألا ترفع الضريبة الجمركية على سلعة معينة عن حد معين، تضعه الدولة ذاتها من خلال جدول يسمى الجدول الوطني للتنازلات، تسجل فيه الضرائب الجمركية المربوطة وحدود الربط». 

المزيد من الإفقار

نخلص من هذا إلى أن تحرير التجارة الخارجية، في مفهوم الغات والمنظمة، لا يعني تخفيض أو إلغاء الضرائب الجمركية. والمطلوب هو إلغاء القيود الكمية وغير التعريفية. لكن ما جرى هو أن الفريق الاقتصادي إلى جانب إلغاء القيود الكمية وغير التعريفية، عمد إلى تخفيض الضرائب الجمركية، علماً أن هذا التخفيض لا علاقة له بشروط الانضمام إلى المنظمة، كما أنه فضلاً عن ذلك يؤدي إلى تخفيض إيرادات الجمارك (وينعكس ذلك على الإيرادات العامة في موازنة الدولة) كما أنه يؤدي إلى الإضرار بالصناعة الوطنية، ويضعها في موقف غير مساوٍ مع المنتجات الأجنبية.

والواقع فإن تحرير التجارة الخارجية، على هذا النحو، يسير جنباً إلى جنب حزمة من الإجراءات والقرارات التي اتخذها الفريق الاقتصادي والتي تقع ضمن برنامج الإصلاح المفروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحت عنوان التحول نحو اقتصاد السوق الحر. وقد ضرب الفريق الاقتصادي عرض الحائط مقتضيات قرار القيادة السياسية بالتحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي وليس السوق الحر. مما يعني عدم التخلي عن الأهداف الاجتماعية بتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان مستوى مقبول للمعيشة لجماهير السكان مع السعي إلى تحسينه وخفض معدلات البطالة والتضخم والجهل، في حين أن الانسياق خلف أوهام الانفتاح والتحرير الاقتصادي سوف يؤدي إلى المزيد من الإفقار والتهميش للفئات الأوسع من أبناء الشعب.

وفيما يتعلق بتحرير التجارة، فإنه ليس من المنطق، تحرير التجارة وفتح حدودنا للمنافسة غير المتكافئة قبل أن نصل إلى تطوير هياكلنا الاقتصادية وننجز بناء مؤسساتنا، مما يجعل منتجاتنا الوطنية تمتلك القدرة التنافسية، فلا مجال لمنافسة شريفة ومتكافئة مع صناعات الدول الأجنبية التي اكتسبت قدراً كبيراً من التنافسية من خلال تطورها التكنولوجي وقدراتها المالية والتسويقية الهائلة مما سيؤدي إلى إغلاق المصانع وإشاعة البطالة.

إن التحرير المتسرع للتجارة، يُدخل الصناعة الوطنية في سباق غير متكافئ يقضي عليها بالخراب والدمار، مما يتناقض مع حق أساسي من حقوق الشعب، وهو الحق في فرصة متكافئة مع ما نالته الدول المتقدمة من فرص لصنع التقدم وبناء قدراتها التنافسية.

ومن هذا المنطلق فإننا نعتقد أن إطلاق حرية التجارة (عدا ما يسببه من أضرار مباشرة على المنتجات الوطنية) يتعارض مع مبدأ «الحق في التنمية» الذي أقرته الشرائع الدولية، والذي يقوم أساساً على مبدأ تكافؤ الفرص. 

اقتصادنا الوطني أولى

ومن هذه الزاوية، فإننا نعارض الاندماج بالاقتصاد العالمي، قبل تمكين اقتصادنا الوطني وتثبيت قدرته، فالمخاطر كبيرة لهذا الاندماج قبل أن نستطيع بناء قدراتنا الذاتية، والارتقاء بالقدرة التنافسية للمنتجات الوطنية.

ما يؤكد ذلك، ما توصل إليه التقرير الذي أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بالاشتراك مع عدد من الهيئات الأخرى بعنوان «جعل التجارة العالمية تعمل لصالح الناس» فقد فند هذا التقرير بوضوح كامل ادعاءات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وتوصل إلى النتائج التالية:

1 - العلاقة المتيقن منها، هي أن الدول تقوم بإلغاء الحواجز وتحرير تجارتها كلما ازدادت ثراءً وتقدماً، وليس قبل ذلك، أي أن النمو هو ما يؤدي إلى تحرير التجارة وليس العكس.

2 - يعتبر الاندماج في الاقتصاد العالمي، نتيجة للنمو والتنمية الناجحين، وليس شرطاً مسبقاً لهما، أي أن الاندماج قبل إحراز مستوى معقول من النمو والتنمية مسلك خاطئ.

3 -  ليس من المنطقي تطبيق قواعد تجارية موحدة على مختلف الدول وبغض النظر عن مستوى التطور الذي أحرزته كلاً منها، وثمة حاجة إلى النظر إلى القواعد التي تحابي الأطراف الأضعف في الاقتصاد العالمي (المعاملة التفضيلية أو المعاملة الخاصة والمتميزة بإصلاحات منظمة التجارة العالمية) على أنها قواعد مكملة للقواعد العامة للنظام التجاري العالمي، وليست مجرد استثناءات منها.

4 -  ثمة حاجة للتحول من تركيز النظام التجاري الحالي على الترويج لتحرير التجارة والنفاذ إلى الأسواق، إلى تزويد الدول بحيز أوسع لرسم السياسات الوطنية. وهو ما يعني ضرورة تخفيف القواعد والمعايير والالتزامات الدولية المفروضة من الخارج، والتي عادة ما تفرض لصالح الأطراف الأقوى في النظام الاقتصادي والتجاري العالمي، وإفساح المجال بالتالي أمام الدول النامية لتغليب المصلحة الوطنية عند وضع سياسات النمو والتنمية.

الاقتداء بالنموذج الأسوأ

إن إلحاح الفريق الاقتصادي، والمؤسسات الدولية والدول الصناعية المتقدمة، للاندماج بالاقتصاد العالمي، يتعارض مع توجهات الشعب وقيادته السياسية، وكذلك مع توجهات المجتمع الدولي على الارتقاء بالتنمية البشرية والاهتمام بتخفيض الفقر واللامساواة.

ومن هذا المنطلق حذر تقرير التنمية البشرية لعام 2005، من التسرع في الاندماج بالاقتصاد العالمي، ونبه إلى ضرورة توجيه اهتمام أكبر إلى الشروط التي يتم بموجبها اندماج الدول في الأسواق العالمية.

ويعيد تقرير التنمية البشرية 2005، أسباب النجاح الذي حققته فيتنام، جراء التحاقها بالعولمة. على عكس غيرها من البلدان النامية، إلى خمسة عوامل:

1 -  اتساع قاعدة النمو الاقتصادي والحرص على إفادة الملايين من صغار المنتجين منه.

2 -  الالتزام بتحقيق الإنصاف من خلال الضرائب وسياسات الإنفاق الاجتماعي وتحسين البنية الاقتصادية والاجتماعية، بما يؤمن إعادة توزيع منافع النمو والتجارة على أوسع نطاق.

3 - التحرير المتدرج، فقد كان النمو السريع في الناتج المحلي الإجمالي والصادرات سابقاً (قبل) تحرير الواردات. 

وأرجو الانتباه إلى هذه الفقرة:

«لقد بدأت فيتنام في تخفيض القيود الكمية على الواردات من أوائل التسعينات، ولكن متوسط التعرفة الجمركية بقي عند 15 %، كما ظلت أسواق رأس المال مغلقة، وهو ما عزل فيتنام عن آثار الأزمة المالية الآسيوية في آخر التسعينات».

4 -  تنويع الصادرات وتنويع الأسواق.

5 -  الاستثمارات السابقة في التنمية البشرية. قبل الانطلاق الاقتصادي لفيتنام، كانت لديها معدلات مرتفعة لفقر الدخل، لكن المؤشرات الأخرى للتنمية البشرية مثل: نسب الالتحاق بالتعليم ومحو الأمية، وتوقع العمر عند الميلاد الخ... كانت أعلى بكثير من المتوسط للدول التي تشترك مع فيتنام في مستوى المعدل نفسه.

ويقارن تقرير التنمية البشري بين ما تحقق في فيتنام ومع ما تحقق في المكسيك، وكلا البلدين سارا على طريق الانفتاح بالفترة التاريخية ذاتها، ويعيد التقرير أسباب الأداء المتواضع للمكسيك بالمقارنة مع ما تحقق في فيتنام إلى العوامل التالية:

1 - غياب الالتزام بتحقيق الإنصاف واحتفاظ المكسيك بدرجة عالية من اللامساواة في بداية التحرير.

2 -  التحرير المتسرع للتجارة.

3 - ضعف السياسات الصناعية وتركز النمو.

4 - الاختلالات في سوق العمل. 

الاندماج وتفاقم اللامساواة

أخيراً تختم هذه المداخلة، ببيان نتائج دراسة حديثة لأثر الانفتاح والعولمة على المساواة وتوزيع الدخول في البلاد العربية (أوردها د. علي عبد القادر) في «العولمة وقضايا المساواة في توزيع الدخل في الدول العربية - المعهد العربي للتخطيط 2005».

تقول نتائج الدراسة «إن اندماج الاقتصادات العربية في النظام الاقتصادي العالمي، قد أدى إلى تفاقم اللامساواة في توزيع الإنفاق الاستهلاكي، ولاسيما فيما يتعلق بالتوزيع بين الطبقات الغنية وبقية السكان، وذلك خلال العقد الأخير من القرن العشرين، فقد ظهر أن للعولمة تأثيراً سلبياً ومعنوياً على نصيب الـ 60 % الوسطى من السكان (أي تلك المحصورة بين أفقر 20 % وأغنى 20 % من السكان) كما أن لها تأثيراً سلبياً، وإن كان غير معنوي إحصائياً على نصيب شريحة أفقر 20 % من السكان. أما الأثر على شريحة أغنى 20 % من السكان فقد كان إيجابياً ومعنوياً في تلك الفترة».

تُرى لصالح من يعمل دعاة الاندماج بالاقتصاد العالمي والالتحاق بالعولمة والركض خلف سراب تحرير التجارة الخارجية وجذب الاستثمارات الخارجية؟؟

هل يعملون لصالح الـ 80 % من السكان، أم لصالح الـ 20 % من السكان. علماً أن الفئة الأغنى في بلادنا لا تتجاوز 5 % من السكان؟

أخيراً نتساءل:

هل من طريقة لإيقاف الانجراف نحو اقتصاد السوق الحر؟

ألا توجد جهة (ما) توقف هذا الزحف نحو لبرلة الاقتصاد؟