ماذا وراء نقد «ستيغليتز».. للعولمة؟!

ماذا وراء نقد «ستيغليتز».. للعولمة؟!

كتب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستغليتز مقالاً بتاريخ 5-8-2016، في موقع project syndicate، يتحدث فيه عن العولمة وانتقال الاحتجاجات والنقمة عليها إلى الدول المتقدمة، معتبراً أن النيوليبرالية هي السبب في تشويه مآلات العولمة، مقترحاً (معايير اجتماعية صارمة) كحل.. فهل ينتقد الحائز على جائز نوبل العولمة حقاً، أم أنّه يدافع عنها؟

يبدأ الاقتصادي الأمريكي مقاله بالحديث عن معارضي العولمة الجدد: (ينضم اليوم إلى صفوف الناقمين على العولمة في الدول النامية والصاعدة عشرات الملايين في الدول المتقدمة)، متسائلاً: (كيف لظاهرة العولمة أن تحصد هذا العدد من المعارضين، بعد تأكيد العديد من قياداتنا السياسية، والاقتصادية، بأنها ستجعل الجميع أفضل؟ إن إحدى الإجابات التي يتداولها الاقتصاديون النيوليبراليون، المدافعون عن هؤلاء السياسيين بأنه من المؤكد أن أوضاع الناس أفضل مع العولمة، ولكنهم لا يدركون هذا، ونقمتهم هي مسألة نفسية وليست اقتصادية)!

يرد ستيغليتز في مقاله على ادعاءات الاقتصاديين النيوليبراليين بالإحصائيات: (بيانات الدخل تشير إلى أن شرائح واسعة من السكان في الدول المتقدمة، لم تكن أوضاعها في تحسن: في الولايات المتحدة 90% من السكان  قد عانوا من ركود في دخولهم لمدة ثلث قرن، والرجال من عمال الدخل المتوسط العاملين بوقت عمل كامل، دخلهم الحقيقي أقل مما كان عليه قبل 42 سنة مضت، أما في القاع فإن الأجور الحقيقية تعادل مستوياتها قبل 60 عاماً مضت.. كما أن آثار العناء الاقتصادي، الذي يعيشه الأمريكيون، يظهر حتى في الإحصائيات الصحية، فعلى سبيل المثال أنغس ديتون الحاصل على جائزة نوبل هذا العام، قد بين انخفاض متوسط العمر المتوقع لشرائح واسعة من الأمريكيين).

يستشهد ستيغليتز بدراسات من أوروبا ليشير (بأن الوضع أفضل، ولكن قليلاً فقط)، متحدثاً عن (أغنى 1% باعتبارهم أعلى الرابحين خلال عقدين بين 1988 وحتى 2008، بينما الطبقة العاملة في منتصف وأسفل السلم الاجتماعي، كانوا من بين أكبر الخاسرين).

يركز ستيغليتز على دور النظرية النيوكلاسيكية، التي تعتبر المدرسة الفكرية المؤسسة للسياسات النيوليبرالية لينتقد افتراضاتها الأساسية: (بناء على الافتراض النيوكلاسيكي حول السوق المثالية، فإن التجارة الحرة تؤدي إلى مساواة في الأجور للعمالة غير المدربة عبر العالم. وحرية انتقال البضائع ستقابلها حرية حركة الناس عبر العالم. وكانت النتيجة أن السلع المستوردة من الصين، والتي تتطلب العديد من العمالة غير المدربة، قلصت الطلب على العمالة غير المدربة في أوروبا والولايات المتحدة. وفشلت العولمة في تحقيق الوعود التي تعهد بها غالبية  السياسيين، ما أدى إلى تقلص الثقة في السلطات، والحكومات تلك التي قدمت عروض الإنقاذ السخية للبنوك، التي ساهمت في أزمة 2008 المالية، بينما تم ترك المواطنون العاديون ليحموا أنفسهم بأنفسهم).

(المشكلة ليست في العولمة)!

ينتهي ستيغلتز إلى التأكيد أن المشكلة ليست في العولمة بحد ذاتها، بل في السياسات النيوليبرالية: (المشكلة لا تكمن في العولمة، ولكن في الآلية التي تتم إدارتها بها، وهذه الإدارة لم تتغير منذ 15 عاماً، بينما المعارضون الجدد لها قد وضعوا هذه الرسالة أمامنا في الدول المتقدمة.. دفع النيوليبراليون إلى سياسات أعادت هيكلة السوق بالطريقة التي تؤدي إلى زيادة عدم المساواة، وإضعاف الأداء الاقتصادي الإجمالي، ليتباطأ النمو مع إعادة صياغة قواعد اللعبة لتخدم مصالح البنوك والشركات، القوية والثرية منها، على حساب الجميع، كما تم إضعاف قدرة العمال التفاوضية..)

أما في صياغته للحلول، فيتحرك ضمن حدود ضيقة: (إذا كان على العولمة أن تعود بالفائدة على جميع أفراد المجتمع، فإن معايير اجتماعية صارمة يجب أن تدخل حيز التطبيق.. قواعد اللعبة يجب أن تتغير ثانية، بما يتضمن معايير لكبح العولمة).

(الأزمة في طورها

 الاجتماعي- السياسي)

يمكن أن نقرأ من مقال الاقتصادي العالمي الحائز على جائزة نوبل، واحدة من مؤشرات الخطر الواضحة التي يرفعها اقتصاديو الرأسمالية بأعلى مستوياتهم اليوم، حول انتقال الأزمة الاقتصادية إلى أزمة اجتماعية وسياسية في مركز الدول المتقدمة.. وهو ما يفسر الحديث الواسع حول عدم المساواة وضرورة إعادة توزيع الدخل وزيادة الأجور، هذا الخطاب الذي يصدر اليوم عن أكثر المنابر تبنياً لليبرالية الجديدة والعولمة كما في صندوق النقد الدولي على سبيل المثال لا الحصر، والذي كان ستيلغيتز من أوائل المتحدثين به.

إلا أن طريقة عرض المشكلة، وتمويه جوهرها، يوضح النوايا إن صح القول، فعملياً يتم التركيز على السياسات الليبرالية الجديدة التي سادت منذ الثمانينيات، فيما أصبح يسمى بعصر العولمة وفق تسمية ستيغليتز نفسه، باعتبارها سياسة محابية لمصلحة الشرائح الأغنى، والبنوك الكبرى، والقطاع المالي، الذي ينال الكثير من الانتقاد اليوم ويوضع كجذر المشكلة، يقول ستيغليتز رسالته الرئيسية بأنه لا يستهدف العولمة بحد ذاتها، (فالمشكلة ليست في العولمة)..

وهنا علينا أن نعود إلى جذر العولمة، باعتبارها مرحلة اكتمال الهيمنة العالمية للشركات الكبرى العابرة للقارات، والتي لا يمكن فصلها عن القطاع المالي المتضخم خلال مرحلة الثمانينيات، حيث كانت النظرية النيوكلاسيكية، وفي مقدمتها المدرسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة لهذه الهيمنة، والإطار الفكري والتطبيق السياسي المخدم لها.. لتعيد في الثمانينيات إحياء المقولات القديمة لمرحلة الرأسمالية التنافسية حول مثالية السوق، وقدرتها على تحقيق التوازن، وبالتالي ضرورة التخلص من القيود، وإحياء شعار: (دعه يعمل دعه يمر)..

المهم أن تستمر «اللعبة»!

إن الاعتراف بمآلات العولمة وتراجع الدخل، والنمو وتعمق الأزمة واللامساواة، بمقابل حصر الأسباب في جوانب بعينها كالسياسات النيوليبرالية أو تضخم القطاع المالي أو غيرها، هو قلب للحقائق، حيث يراد منه الوصول إلى نتيجة، بأنه من الممكن بتطبيق معايير اجتماعية، أو بانتقاد النيوليبراليين، أو بتغيير قواعد اللعبة، وفق تعبيرات ستيغليتز. من الممكن نقل فوائد العولمة لتعم الجميع..

المهم بالنسبة لستيغلتز هو أن «تستمر اللعبة»، فالطرح الذي يقدمه هو دفاع عن العولمة، في لحظة انتقال الأزمة إلى العمق الاجتماعي والسياسي في المراكز الرأسمالية. والدفاع عنها هو عملياً دفاع عن  المنظومة الرأسمالية باعتبارها هيمنة القلة العالمية عبر شركاتهم الاحتكارية الكبرى العابرة للقارات، مع كل أدوات هيمنتها المتاحة، من دول وجيوش ومؤسسات، ومنظومات مالية.. تلك التي تهتز جميعها تحت ضغط تعمق الأزمة وحاجة الشعوب وسعيها إلى التخلص من هذه الهيمنة وبلورة البدائل، بعد أن أصبحت الرأسمالية اليوم تهدد ليس فقط تطور البشر وتقدمهم، بل وجودهم واستمرارهم، وحتى استمرار الكوكب الذي يعيشون عليه!