تحرير التجارة الخارجية.. هل هو قاطرة للنمو؟ د. الحمش: التحرير قبل التمكين خطر جسيم!
تصدى د. منير الحمش في الندوة الأخيرة لجمعية العلوم الاقتصادية السورية لموضوع تحرير التجارة من حيث شروطه وأبعاده، وتوقف مطولاً عند هذا التحرير، وإمكانية اعتباره قاطرة للنمو الاقتصادي..
بدأ الباحث محاضرته بتوضيح الدوافع التي قادته لطرح هذا التساؤل على أنها عديدة، ومنها حسب قوله: إصرار المسؤولين الاقتصاديين في الحكومة على رفع شعار تحرير التجارة كأولوية تكتسبها سياستهم الاقتصادية؛ والأزمة المالية والاقتصادية العالمية الراهنة وما سببته من تداعيات كان أهمها فشل اقتصاد السوق الحر؛ إضافةً إلى تعثر مفاوضات جولة الدوحة وفشل الاجتماع الوزاري السابع لوزراء الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية الذي انتهى في 4/12/2009 دون الاتفاق على أية موضوعات أو خطوات لاحقة سوى الإعلان عن مواصلة التشاور وتبادل وجهات النظر حول الموضوعات العالقة وأهمها مسألة تحرير التجارة العالمية..
وأوضح د. الحمش أنه «في الوقت الذي تطالبنا به الدول الغنية وأدواتها من المؤسسات الدولية ودُعاتها من أنصار اقتصاد السوق، بالانفتاح الاقتصادي وفتح أبواب الاستيراد وتحرير التجارة، تتبع هي سياسات حمائية تجاه منتجات البلدان النامية والصاعدة، مما يدفعنا مجدداً لطرح هذا التساؤل، وتطرق الباحث إلى تحرير التجارة، كبند رئيسي في وصفة التحول نحو اقتصاد السوق الحر موضحاً أن الدعوة إلى تحرير التجارة تأتي بوجه عام شاملةً تحرير التجارة الخارجية التي توصي بها المؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي، كما أن تحرير التجارة الخارجية يعتبر من أهم عناصر (توافق واشنطن) الذي التقت ثلاث جهات مركزها الرئيسي واشنطن على صياغته، وهي حكومة الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
توافق واشنطن
(توافق واشنطن) الذي تمثل الليبرالية الاقتصادية الجديدة جوهره حسب د. الحمش يدور حول ثلاثة أمور أساسية:
1 - إحداث زيادة ملموسة في مدى الاعتماد على الأسواق الحرة، سواء فيما يتعلق بالمعاملات الداخلية أو المعاملات بين الداخل والخارج، شاملاً تحرير التجارة وفتح الأبواب أمام تدفقات الاستثمار الأجنبي.
2 - إطلاق مجالات العمل أمام القطاع الخاص، بشقيه المحلي والأجنبي، واعتباره ركيزة التنمية، وتشجيعه بشتى السبل بما في ذلك الخصخصة وإشراكه في تقديم الخدمات التي كانت مقصورة فيما سبق على الحكومة أو القطاع العام كخدمات المرافق العامة.
3 - إحداث خفض ملموس في دور الحكومة، وفي حجمها وفي تدخلاتها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
وباختصار، فإن العناصر الجوهرية لتوافق واشنطن/الليبرالية الاقتصادية الجديدة، هي حسب د. الحمش: سوق حرة، واقتصاد مفتوح تحركه المبادرات الخاصة، وحكومة صغيرة..
وأشار الباحث إلى علاقة تحرير التجارة الخارجية بمشروعي (الشرق الأوسط الكبير) و(الشراكة الأوروبية)، مبيناً أن تحرير التجارة الخارجية يندرج في إطار دعوة الغرب لبلدان العالم الثالث للتحول نحو اقتصاد السوق، وبالتالي الالتحاق بالاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي تهيمن البلدان الصناعية المتقدمة على مقدراته.
وتابع د. الحمش موضحاً أن التدقيق في البند الخاص بتحرير التجارة الخارجية المتضمن في الشراكة الأوروبية واقتصاد السوق يظهر أن الهدف الرئيسي هو فتح أسواق جنوب وشرق المتوسط أمام المنتجات الصناعية الأوروبية، ما سيؤدي إلى إغراق أسواق الجانب العربي بهذه المنتجات، الأمر الذي سيعرض المنتجات الوطنية لمنافسة غير متكافئة، وبالتالي إغلاق العديد من الورش والمعامل الوطنية بكل ما سيعكسه ذلك من بطالة.
التحرير والتمكين
وشدد د. الحمش على أن التحرير قبل التمكين خطر جسيم، إذ يشتمل تحرير التجارة الذي تدعونا إليه وصفات الإصلاح المستوردة، ويرفع شعاره دعاة الليبرالية الاقتصادية الجديدة وتنادي به نخب العولمة، يشتمل ليس فقط على فتح الاقتصاد والأسواق المحلية أمام المنتجات الأجنبية، وإنما على عدم توجيه أي دعم للصناعات المحلية، ما يساعدها على الصمود في وجه المنافسة غير العادلة في الأسواق المحلية والأجنبية.
وأوضح د. الحمش أن تحرير التجارة على النحو الذي تطالب به الدول الصناعية المتقدمة سيؤدي إلى عرقلة جهود التنمية وإعاقة إقامة صناعات متقدمة، وبالتالي اتساع الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة..
وبالنسبة للدعوات إلى تحرير التجارة الخارجية السورية والاندماج بالاقتصاد العالمي، أوضح د. الحمش أنها تأتي في إطار سياسات الإصلاح الاقتصادي الذي تنادي به الليبرالية الاقتصادية الجديدة في تحرير الاقتصاد والانفتاح، على الرغم من أن القيادة السياسية اعتمدت التحول إلى (اقتصاد السوق الاجتماعي).
وتابع الباحث أنه تم التركيز في القرارات الاقتصادية على هذا الجانب دون أي اعتبار للجانب الاجتماعي وما ستخلفه هذه القرارات على حياة الناس ومتطلبات حياتهم الكريمة.
وتوج الباحث محاضرته بطرح السؤال المباشر: هل سيحقق تحرير التجارة الخارجية ما يروج له أنصار الليبرالية الاقتصادية الجديدة من نمو اقتصادي؟ وهل حقاً أن تحرير التجارة الخارجية قاطرة للنمو؟ ورأى أن من أهم ما يواجه قضية التنمية في البلدان النامية عموماً، هو تحدي (ضبط العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية مع العالم الخارجي) وما يترتب عليها من تداعيات تضع تلك البلدان في إطار الاستقلالية أو التبعية. وانطلاقاً من ذلك، فإن سياسات التجارة الخارجية تكتسب أهمية خاصة في ضوء التطورات الحاصلة على الصعيد العالمي والإقليمي، اقتصادياً وسياسياً، وكذلك مع تزايد التوجهات نحو إقامة التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية، والترويج للعولمة ولفكرة أن (التجارة قاطرة للنمو) وإشاعة الفكر الليبرالي الاقتصادي الجديد، من خلال العمل الدؤوب الذي تقوم به أطراف (توافق واشنطن) والاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وتجربته الاشتراكية، وانتهاء الحرب الباردة والإعلان عن نهاية التاريخ، بالانتصار الحاسم للرأسمالية وفكر اقتصاد السوق.
وأكد د. الحمش أن هدف تحرير التجارة الخارجية يقع في صلب برامج الإصلاح الاقتصادي التي توصي بها المؤسسات الدولية وكذلك في برامج الإصلاح التي تندرج في مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تدعو إليه الولايات المتحدة ومشروع الشراكة الأوروبية الذي يدعو إليه الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أنه أحد أهداف منظمة التجارة العالمية.
إجراءات خطيرة ومتسرعة
وبين أنه جرى في سورية انتهاج سياسات تحرير التجارة الخارجية على نحو متسارع حيث تعلن الإدارة الاقتصادية باستمرار عن قناعتها بأن تحرير التجارة الخارجية هو قاطرة النمو، وإذ يرتبط تحرير التجارة بالاندماج في الاقتصاد العالمي، فإن المسؤولين الاقتصاديين لا يتورعون عن الإعلان عن رغبتهم في الاندماج بالاقتصاد العالمي، وترافقت هذه الدعوات باتخاذ العديد من الإجراءات الانفتاحية مثل إلغاء حصر وتقييد استيراد المواد والسلع الأساسية، والسماح للقطاع الخاص بالاستيراد دون عوائق، مع إجراء تخفيضات متتالية في الرسوم الجمركية وقد بدا واضحاً التأثير السلبي لعمليات فتح باب الاستيراد على الصناعة الوطنية، مما يؤكد ما سبق أن أعلناه مراراً بأن تحرير التجارة قبل التمكين خطر جسيم، والدليل على ذلك أن القيادة السياسية لمست الآثار السلبية للشراكة الأوروبية فأوقفت التوقيع النهائي على الاتفاقية من أجل التدقيق من آثارها وإيجاد الوسائل الكفيلة لمنع الآثار السلبية للشراكة الناجمة عن تحرير التجارة وغيرها من الشروط المجحفة التي تصر عليها أوروبا.
وأشار د. الحمش إلى أن جوهر الشراكات مع التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية، هو تحرير التجارة والتحول نحو اقتصاد حرية السوق، بما يعنيه ذلك من تصاعد دور القطاع الخاص إلى حد توليه قيادة الاقتصاد الوطني، وكذلك السير قدماً في مجال الخصخصة توصلاً لحكومة الحد الأدنى، وجميع هذه النتائج لا تتفق مع توجهات القيادة السياسية في التوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، ولا مع الرغبة الشعبية الواسعة بتحقيق التنمية، مما يؤدي إلى التخلص من براثن الفقر والبطالة. وتوصل د. الحمش إلى أنه نظراً لارتباط تحرير التجارة الخارجية بحزمة من السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية التي تقع تحت عنوان التحول نحو اقتصاد السوق، بما يتنافى مع مراعاة عدالة التوزيع، فقد أدت هذه السياسات إلى اتساع دائرة الفقر، وزيادة معاناة المواطنين، وزيادة معدلات البطالة، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والضغط على الشرائح الوسطى؛ كما أدى تحرير التجارة أو فتح باب الاستيراد على مصراعيه إلى خلق جو من المنافسة غير العادلة بين السلع والمواد المستوردة والمنتجات الوطنية، مما أدى إلى إغلاق العديد من المعامل والورش وتشريد عمالها؛ وأدى تحرير التجارة المتسارع إلى ظهور عجز في الميزان التجاري (السلعي والخدمي)؛ وأضاف د. الحمش أن دعاة تحرير التجارة يدعون بأن ذلك سيؤدي إلى إغلاق بعض المصانع لكنهم يقولون بأن ذلك سيكون مؤقتاً، إذ ستنهال الاستثمارات الأجنبية بعد التحرير، وتقوم بفتح معامل جديدة تؤدي بدورها إلى تشغيل العمال، لكنهم لا يضمنون هذه النتائج، فالمستثمر يتخذ قراره بالتوجه للاستثمار إلى بلد معين بعد دراسة أوضاع هذا البلد من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يخضع في قراره للسلطة السياسية، وهذا يعني أن النتائج الضارة للانفتاح وتحرير التجارة واقعة حتماً، في حين أن النتائج الإيجابية في عالم الغيب.
النموذج البديل
لم يكتف د. الحمش بعرض المشكلة بل تعدى ذلك لما رآه الحل الذي يتمحور حول إعادة الاعتبار لدور الدولة التنموي، وتخفيف التسارع نحو الانفتاح واعتماد مبدأ التدرج والانتقائية، واتخاذ كل ما يمكن اتخاذه من أجل الحفاظ على قوة الاقتصاد بتمكينه أولاً، وبحيث يدعم ويقوي من دور الدولة، ويصعد من قدرتها التفاوضية تجاه الخارج، وضبط العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية مع العالم الخارجي حفاظاً على استقلالية قرارنا الاقتصادي، ومن أجل تحقيق أعلى درجة من درجات النمو والتنمية.
ودعا الباحث إلى وضع النموذج البديل لسياسات الانفتاح والتحرير المتسارع على طاولة البحث والحوار لإغنائه وتطويره أساساً للخلفية النظرية للخطة الخمسية الحادية عشرة، بديلاً عن الخلفية النظرية التي تم اعتمادها في إعداد الخطة الخمسية العاشرة، والتي كان عنوانها اقتصاد السوق الاجتماعي، في حين أنها انحرفت بالاقتصاد الوطني نحو اقتصاد السوق الحر بتغليب آليات السوق الوحشية، والتراجع عن الأهداف الاجتماعية لاقتصاد السوق الاجتماعي.