الجزيرة السورية من التهميش إلى عتبة المجهول

منطقة «الجزيرة السورية» هو التسمية المتعارفة على المنطقة الشمالية الشرقية من سورية والتي تشمل إدارياً ثلاث محافظات الرقة الحسكة ودير الزور. يشكل الإقليم مثلث التجاور مع الحدود العراقية والتركية بطول 605 كم للأولى، وحوالي 500 كم مع تركيا. المنطقة هي الخزان المائي والغذائي والطاقي لسورية بكل معنى الكلمة، والمنطقة هي الأكثر فقراً والأقل تنمية، والأكثر عرضة للتغيرات الديمغرافية بسبب حالة عدم الاستقرار التي يولدها «التخلف» الناجم عن كثرة الفقر وضعف التنمية. فأراضي الإقليم تحوي الجزء الأكبر من المجرى الرئيسي والروافد الكبرى لنهر الفرات البليخ والخابور، وتحتوي على بحيرة سد الفرات في مدينة الطبقة في الرقة وهي تشكل أكبر مسطح مائي في سورية. وأراضي الجزيرة الزراعية المروية تشكل نسبة 55% من الأراضي المروية في البلاد، وحوالي 43% من إجمالي الأراضي الزراعية السورية. حيث تساهم الجزيرة بنسبة تتفاوت بين 57% - 60% من إنتاج القمح السوري، وبين 68- 78% من إنتاج القطن، وتنتج نسبة تصل 44% من إجمالي إنتاج اللحوم الحمراء.

أما بالنسبة للطاقة فحقول النفط والغاز المنتجة في سورية والتي هي جزء من ثلاثة أحواض رئيسية في المحيط الإقليمي وهي حوض ما بين النهرين، وحوض الفرات، والحوض التدمري، حيث تحوي أراضي المثلث الشمالي الشرقي السوري حقول النفط والغاز السورية التابعة للحوضين الأول والثاني، وجزء من الحوض التدمري الثالث يتواجد في دير الزور أي تحوي الجزيرة أكثر من ثلثي حقول استخراج الوقود الأحفوري في سورية.

هجرة القوى العاملة

التعداد السكاني للإقليم بلغ في عام 2005: 3،1 ملايين، ويتوقع وصوله في عام 2010 إلى 3،7 ملايين. وقد طرأ الكثير من التغيرات الديمغرافية، حيث اتسم وضع سكان المنطقة الشرقية بأعلى مستوى من عدم الاستقرار خلال العقد السابق. فازدادت الهجرة بدافع العمل إلى دول الجوار، حيث كانت لبنان تعتبر نقطة استقطاب للقوى العاملة في الجزيرة بنسبة تتراوح بين 7- 14% من القوى العاملة وتتغير هذه النسبة بين الهامشين كونها هجرة موسمية بأغلبها مرتبطة بظروف العمل الزراعي في الإقليم ذات الطبيعة الموسمية. ومع تعمق ظاهرة الهجرة تغيرت طبيعتها واتجاهاتها، فالمناطق الحدودية في الجزيرة شهدت حركة باتجاه المدن الكبرى الإقليمية المجاورة، وتحديداً إلى أربيل العراق وإلى بعض المدن التركية الحدودية، بالإضافة إلى الهجرة الداخلية الواسعة باتجاه المدن السورية. ولتقدير حجم هذه الهجرة تشير دراسات إلى أن زيادة قوة العمل في منطقة الجزيرة كانت بين 1994-2001 تزيد بمعدل سنوي 60 ألفاً، بينما بين عامي 2001- 2008 تناقصت الزيادة السنوية في قوة العمل لتبلغ في المتوسط 18 ألفاً أي أن الفارق الكبير بين المعدلين يعبر عن حركة القوى العاملة خارج الإقليم والتي توزعت بين هجرة خارجية، وهجرة إلى المدن الأخرى.

بحسب دراسات 2010 كانت أعداد الأسر المهاجرة داخلياً تقدر بـ 60 – 70 ألف أسرة، وهو ما يقدر بتعداد 600 ألف شخص بناء على وسطي تعداد الأسرة في الإقليم الذي يبلغ 10 أفراد في الرقة ودير الزور و 12 في الحسكة. بينما قدرت بعض الدراسات أن نسبة الهجرة من مجموع السكان وتحديداً في منطقتي الاستقرار الزراعي الرابعة والخامسة بلغ نسبة 38%.

تشير الدراسات إلى أن الزيادة السنوية في فرص التشغيل هي نسبة متراجعة، وبمعنى آخر تُخلق في سورية فرص تشغيل أقل عاماً بعد عام، وهذه الظاهرة العامة تركزت خلال العقد الأخير في إقليم الجزيرة حيث أكثر من 50% من «فاقد التشغيل» السوري يتواجد فيها. فبين عامي 2001-2008 فرص العمل التي توفرتكانت نسبة 4% منها فقط في الصناعة، مقابل 40% في الخدمات والباقي في الزراعة، وكانت بمعدل سنوي 6 آلاف وظيفة جديدة/ سنة، بينما المطلوب أكثر من 50 ألف وظيفة/ سنة للمحافظة على السكان والحد من الهجرة.

عودة الملاكين والعمال الزراعيين

شهدت هذه المنطقة أكبر التغيرات في طبيعة العمل الزراعي وعلاقاته، فتحول جزء كبير من المزارعين إلى عمال زراعيين، وسادت علاقات الاستثمار الزراعي الكبير لمساحات واسعة، وتشكلت من جديد وبشكل واضح حالات «تجميع زراعي مضاد» أي ملكية وعوائد الأراضي الزراعية بأيدي قلة، وهي عملية أخذت أشكالاً وطرقاً متنوعة كالأجار والاستثمار والتشغيل، وساعد عليها الجفاف وسياسات ما بين 2005- 2010 التي تركزت آثارها السلبية على المزارعين وصغار المالكين تحديداً. فعدم ترشيد الري وحفر الآبار أدى إلى جفاف شبه كامل لنهر الخابور، رفع أسعار المحروقات، رفع أسعار السماد، عدم تغيير كبير في أسعار استلام المحاصيل الاستراتيجية من المزارعين، تأخر في المشاريع الكبرى مثل جر مياه نهر دجلة الذي يغير واقع الأمن المائي في الجزيرة وفي سورية من العجز نحو الوفرة مستقبلاً، بحيث يؤمن ري 150 ألف هكتار، بتكلفة 100 مليار ل.س.

كل هذه العوامل شكلت الأرضية لعدم قدرة صغار المزارعين على إعادة زراعة أراضيهم وبالتالي توسعت عمليات ترك الأراضي أو بيعها، ما ساعد كبار المالكين وأصحاب السيولة على توسيع ملكياتهم الزراعية، لتتجاوب لاحقاً معهم التشريعات والسياسات الاقتصادية التي سمحت بالاستثمار الزراعي بدون حد لملكية الأرض الزراعية، وهو ما شبهه البعض بعودة الإقطاع من جديد بينما هو دخول نهائي للعلاقات الرأسمالية في القطاع الزراعي السوري من باب الجزيرة السورية، وظهر تحديداً مع دخول التجار إلى سوق المحاصيل الاستراتيجية في المنطقة وإن كان بشكل غير مشروع.

هذا المستوى من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وحدوث تغيرات كبرى في الإقليم، ترافق بالضرورة مع توسع بمعدلات الفقر، ونسب التسرب من التعليم، وتأخر الوضع الصحي والخدمي. أي هشاشة اقتصادية عامة، فالزراعة الموسمية بقيت الرافد الوحيد، بينما موارد النفط والغاز وحتى التشغيل في هذه الحقول، لم تعد بنفع جدي على المنطقة وأبنائها. فالمنطقة التي لم تكتمل ثورتها الزراعية، لم تنتقل الأنشطة الصناعية السورية إليها، وبقي التخديم الحكومي لها بحدوده الدنيا، التي لا تتناسب مع مستوى الموارد فيها وبالتالي مستوى تخديمها العام لسورية.