«الجزيرة» بين عوامل «الطرد» المحلية وعوامل « الجذب» الإقليمية
تطرح المفارقات التنموية بين منطقة الجزيرة والمناطق التركية المحاذية على احتمالات وتغيرات اقتصادية اجتماعية واسعة. فاستمرار حالة عدم الاستقرار في إقليم الجزيرة الناجمة بشكل أساسي عن ضعف التنمية، تشكل مجموعة من عوامل ممكن تسميتها بعوامل «العزل والطرد» المحلية، وتزداد خطورة هذه العوامل إذا ما علمنا أنها في مواجهة مع عوامل «الجذب» الإقليمية الناجمة عن التنمية الإقليمية.
عوامل «الطرد والعزل» المحلية
الجزيرة السورية بعيدة جغرافياً عن مراكز المدن السورية الرئيسية، ففي الوقت الذي تبعد الحسكة عن دمشق مسافة 595 كم، وعن حلب مسافة 352 كم، فإن مجموعة من المدن التركية مثل ماردين، ديريك، وديار بكر، لا تتعدى نصف المسافة إلى حلب، وأقل من ربع المسافة إلى دمشق. والبعد الجغرافي «للجزيرة» عن المدن السورية يمكن أن يحل بربط تنموي وهو المفقود الأساسي، فإذا ما كانت السكك الحديدية هي شريان نقل المواد والطاقة فإن هذا الشريان بطيء جداً، حيث يوجد خط حديدي واحد يربط مناطق ومدن إقليم الجزيرة بالعاصمة دمشق، أو حتى بالعديد من المناطق السورية، لتقتصر السكك الحديدية في المنطقة الواسعة على خط: يصل إلى القامشلي من حلب واللاذقية بطول 1044 كم، أما الباقي فهو عبارة عن خطين منفصلين فقط: القامشلي- اليعربية بطول 90 كم، دير الزور – الطابية بطول 30 كم. أما الربط بالنقل الجوي فضعيف أيضاً حيث تحوي المنطقة مطارين دير الزور والقامشلي وهي مطارات ركاب فقط، وليست مطارات حمولة، وتعتبر وسيلة نقل استثنائية نتيجة ارتفاع تكاليف النقل الجوي الداخلي. يعتبر عدم ارتباط الإقليم مع المدن السورية الرئيسية بطرق سريعة تاريخياً، هو أهم عوامل العزل، حيث تستمر رحلة الحسكة -دمشق حوالي 12 ساعة بالقطار، وحوالي 8 ساعات على طرق النقل البرية في الحالة الطبيعية، وكذلك البعد عن المدن الصناعية الرئيسية أي بشكل أساسي حلب، وحمص.
أما عوامل «الطرد» فهي بشكل أساسي التراجع الزراعي والغياب الصناعي وتراجع الخدمات حيث لا تتوافر شبكة صرف صحي في كثير من التجمعات السكانية في إقليم الجزيرة، ولا يحصل ثلثا السكان على مياه شرب نظيفة كمثال على تردي الوضع الخدمي.
عوامل «الجذب» الإقليمية
المنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا وهي منطقة الحدود مع سورية والعراق ومنطقة منابع الفرات ودجلة، كانت استهدافاً لمشروع تنمية تركي سمي مشروع «GAP» ويضم عدة مدن تركية، تحول عدد منها إلى مراكز جذب واستقطاب مثل (ديار بكر، غازي عينتاب، سيرت، ادرنة) وتشكل هذه المنطقة مايقارب 9،7 % من مجمل مساحة تركيا ونسبة 20% من الأراضي الزراعية التركية.
مشروع التنمية التركي قائم على التنمية الزراعية والخدمية، وبشكل رئيسي على إقامة السدود على نهري الفرات ودجلة، وكانت التقديرات أن استكمال بناء 22 سداً كما ينص المشروع سيزيد من تحكم تركيا بمياه الفرات بنسبة 80%، وهو ما سينتج عنه تراجع في حصة سورية بمقدار 40%. إلى اليوم لم يدرس مشروع التنمية التركي بعلاقته مع جفاف نهر الخابور وتراجع منسوب المياه في الفرات، وتأثيره على وضع المياه في سورية وعلى وضع الزراعة تحديداً في إقليم الجزيرة. وفي دراسة أجراها الباحث الاقتصادي سمير العيطة حول التخطيط الإقليمي في إقليم الجزيرة أجرى مقارنة بين منطقة المشروع التركي، والجزيرة السورية، لتتوضح الفجوة الخدمية والتنموية بين المنطقتين، من خلال مؤشرات النقل على سبيل المثال فمنطقة الـ GAP التركية تحوي 8 مطارات، اثنان منها مطارات رئيسية في تركيا، مع شبكة واسعة من الخطوط الحديدية وطرق النقل الرئيسية والفرعية. بينما الجزيرة السورية لا تزال «معزولة» بمعنى مستوى الربط التنموي الضروري مع المدن السورية الأخرى.
أين يقودنا هذا
المواجهة بين عوامل الجذب الإقليمية والعزل والطرد المحلية، قد تؤدي مع استمرار الاتجاهين إلى تغير في عصب الاقتصاد المحلي لتلك المناطق، لتندفع بشكل تلقائي نحو الربط مع مراكز جذب تركية وعراقية كما في مدينة أربيل المتطورة حديثاً والتي أصبحت تضاهي بعض مدن الخليج من حيث طلب القوى العاملة، مبتعدة عن المدن السورية الرئيسية.
التقديرات السابقة هي تقديرات ما قبل الأزمة، والتي اتضحت نتائجها خلالها، فالجزيرة السورية غير مربوطة بالمركز إلا بالطرق البرية غير الآمنة اليوم، والتي قد تستغرق من دمشق إلى الحسكة اليوم بين 10 – 14 ساعة للركاب، مع تكلفة ذلك الاقتصادية والاجتماعية في نقل المواد الرئيسية الطحين والوقود، ونقل الإنتاج الرئيسي من منطقة الجزيرة إلى باقي المناطق الرئيسية، أي نقل إنتاج القمح، والقطن،وغيرها.. ويظهر أثر الجذب من أبسط الظواهر أي انتشار البضائع التركية، والعراقية في المنطقة، إلى أعقدها كما في بعض المناطق الحدودية الأخرى التي يتم التعامل فيها بالعملة التركية.
تقديرات الدراسات الاقتصادية كانت تشير إلى أن منافسة عوامل الجذب الإقليمية، وضرورات التنمية وموارد منطقة الجزيرة كلها تقتضي إنشاء 3 مدن رئيسية بمستوى تنموي متطور، تشكل عوامل جذب حقيقية، وتتطلب أيضاً تأمين عملية ربط سريع مع العاصمة دمشق ومع كافة المناطق السورية، ببدائل متعددة تتيح أن لا تنقطع عملية الإمداد من المنطقة الهامة وخزان سورية الطاقي والغذائي، وإليها عن طريق الخدمات والإنتاج الصناعي.
عدم مواجهة هذا التحدي الهام يفتح اليوم خلال الأزمة على احتمالات خطيرة، فتحول الأقاليم المحيطة موضوعياً إلى عصب إنقاذ وشريان حياة للمنطقة يمهد مع استمرار الإنعزال عن مدن سورية الرئيسية وعن تواجد جهاز الدولة إلى احتمالات تبدأ بالتوتر الاجتماعي الذي قد تدعمه الدول المجاورة وستاعد عليه الطبيعة الديمغرافية للجزيرة السورية، وقد تنتهي بـ «فك الارتباط» الذي يتم العمل عليه سياسياً من أصحاب مشاريع «الفوضى الخلاقة» والتقسيم في الخارج..