عام على الأزمة.. أين نحن وأين الفساد؟؟

عام 2012 هو عام دخول الأزمة الاقتصادية مراحل خطيرة مست جميع الخطوط الحمراء..

 

فالعقوبات الاقتصادية حققت الاختناقات والشلل المطلوب لفترات محددة لتمنع جزءاً هاماً من موارد الدولة ولتعيق بشكل جدي استيراد المواد الأساسية مثل الوقود. والأوضاع الأمنية وحالة العنف الدائرة شوهت القاعدة الأساسية لاستمرار أي نشاط اقتصادي بشكل فعال لتأزم قطاع النقل والتجارة الخارجية والصناعة والطاقة.

لن نعيد في البانوراما الاقتصادية لعام 2012 تحليل وتوصيف الازمات ولن نندب على الظروف الخارجية التي ساهمت بتدهور اقتصادنا.. ولكن سنحاول أن نسلط الضوء على الصراع الاقتصادي الحقيقي والنقاط التي سجلت على قوى الفساد ومراكز قوته..لنرى أننا بهذا نمس جذر جميع الأزمات والاختناقات التي يشهدها الاقتصاد السوري.

فرصة للتخلص من العفن

ما يقال ويكرر حول إن الاقتصاد السوري أثبت قدرته على الصمود ليس بمجمله كلاماً عشوائياً تطمينياً.. بل يحمل من الحقيقة الشيء الهام، فمن الممكن القول إن لحظة الازمة تدفع الاقتصاد السوري للسير الحتمي نحو التخلص من  «العفن الاقتصادي الريعي» الذي شابه طوال سنوات... ولكن خطوات السير التي تبدو متثاقلة تواجه منهجاً وآليات منسقة ومضبوطة ومتراكمة القوى خلال عقود مضت، ولعل تحقيق النصر الساحق عليها قد يكون بعيداً، ولكن اللحظة تتيح موضوعياً تجفيف الكثير من منابع الفساد وإضعاف ركائزه ليتضح لاحقاً بأن كسر شوكة أصحاب الريع الكبير ستسمح بمعالجة نقاط الخلل الكبرى في الاقتصاد السوري..

لحظة توازن القوى العالمية أتاحت لسورية اقتصادياً فتح بوابات أغلقتها العقوبات من جهة وأغلقتها سابقاً « الميول الاقتصادية الغربية» التي طغت على علاقات سورية. هذه العلاقات التي على الرغم من اتسامها بالكثير من التشوه وعدم التكافؤ، والهدر الاقتصادي العام، ولكن استمرارها لعقود يعود لكونها تحقق ريعاً كبيراً لإحدى أكبر القوى الاقتصادية التي تحكمت بسياسات الاقتصاد السوري وهي قوى الفساد في جهاز الدولة.

الفساد في جهاز الدولة

قوى الفساد في جهاز الدولة إحدى أهم فئات الفساد في سورية والتي يتطلب الواقع الحالي تحليلاً وتوصيفاً دقيقاً لمواردها، بهدف « قطع الإمداد « عنها وتحويله إلى موقعه الطبيعي والضروري في لحظة الأزمة  أي نحو الصالح العام والتوظيف المناسب.

ومن الممكن أن نحدد ثلاثة مواضع رئيسية خلقت قوى الفساد ثغرات رئيسية فيها لسحب الموارد منها، باعتبارها مصدراً رئيسياً لولادة الموارد وتوزيعها.

القطاع النفطي، التجارة الخارجية وتحديداً لمصلحة القطاع العام، والإنفاق الحكومي الجاري سواء الإنفاق الإداري الخدمي أو الدعم. وتتقاطع مع بعضها بعضاً في كثير من الحالات ولكن أوضحها في استيراد وتصدير المشتقات النفطية وتوزيعها مدعومة..

ثغرات متنها الفساد

على الرغم من أهمية القطاع النفطي فإن عقود النفط تمت مع شركات عالمية كبرى بحصص تبلغ50 % .

ولم تستطع أو تحاول الحكومات السورية المتعاقبة البحث عن بدائل أو تحسين شروط هذا الاستثمار، أما من ناحية تصدير النفط الخام والمشتقات النفطية واستيرادها، فهي تلخص ثغرات قطاع التجارة الخارجية لمصلحة القطاع العام عموماً كون التبادل في هذا القطاع محصوراً بالدولة. حيث تشكل هذه التشوهات بوابات عبور موارد الدولة للفساد:

البداية من تركز الوجهة الاقتصادية على الغرب أولاً وهو لا يعتبر مؤشراً إلا إذا اقترن بالسمة العامة للعلاقات مع الغرب الاقتصادي في سورية وهي صفة عدم الثبات. حيث يعتمد بشكل أساسي في عمليات الاستيراد والتصدير على العقود قصيرة الأمد والتي تكون غالباً سنوية، وهي ناجمة عن اعتماد أسلوب المناقصات والبيع والشراء في السوق الدولية، بينما غابت تقريباً عن العلاقات التبادلية الاقتصادية الخارجية العقود طويلة الأمد والثابتة والموقعة مع دول.

يشير هذا التوجه إلى غياب منطق تعامل الدولة مقابل حضور منطق تعامل قائم على العلاقات خصوصاً بأن الأرقام توضح أن هذا التوجه الاقتصادي لم يحقق يوماً سوى الهدر نتيجة عدم التكافؤ.. بالتالي فإن استمراريته لا بد كانت تحقق ريعاً لجهة ما وهي «سماسرة الصفقات» ممن يحصلون على نسب من صفقات رسو المناقصات على جهات دولية.

يزداد هذا الريع كلما تقلص أمد العقود وزاد عددها، بينما يقل أو يصعب تحصيله عند التعامل مع الدول لتنسق هي مع شركاتها، لذلك تكثر صفقات البيع والشراء التي يتم فيها التعامل المباشر مع الشركات أو مع تجار دوليين. وذلك ينطبق على شراء أغلب المشتقات النفطية من السفن في عرض البحر بصفقات مباشرة.

أما الإنفاق الحكومي فهو الشكل الآخر والأكثر مباشرة لسحب موارد جهاز الدولة حيث اتضح أن جزءاً هاماً من إنفاق الحكومة على استيراد المشتقات النفطية ومادة المازوت تحديداً يشكل مخصصات مباشرة لمهربي المادة، الذين يحققون أرباحاً كبرى من فوارق السعر مع الجوار التي يشكلها دعم المادة .

لحظة قطع العلاقات مع الغرب والاتجاه نحو التعامل مع دول «الشرق اقتصادياً» هي لحظة اختلال قوة هذه الفئات من كبار فاسدي جهاز الدولة، نتيجة تراجع كبير في ريعهم الاقتصادي ولكن لا يمكن أن تتحول إلى حالة استمرارية إذا لم يتم تثبيت هذه العلاقات بعقود وشراكات ثابتة تحقق وفراً أولاً وضمانة ثانية وتخفف كثيراً من ريع الفساد.

وهي نقطة هامة تسجل في بانوراما 2012 الاقتصادية..

فساد يقلص الدور الإنتاجي للدولة

تقاطعت تحليلات أزمات القطاعات الرئيسية حول نقطة هامة هي تراجع دور جهاز الدولة في الإنتاج والتوزيع، ولم يبد قطاع الدولة في هذا المكان مرونة أو نقلات نوعية خلال عامي الازمة وتحديداً عام 2012، فما يظهر حتى اليوم هو محاولات لملاحقة الاختناقات وإدارتها بأقل الخسائر، وهي عملية لم تتم بكل الحالات بالسرعة المطلوبة.

فأظهرت الأزمة الهشاشة في دور الدولة الإنتاجي بشكل واضح في القطاعات الرئيسية التي تعتبر الدولة المنتج الأساسي لها كالطاقة الكهربائية، وفي جميع المجالات التي تساهم بعملية الإنتاج فيها.

وأكدت الوقائع أن مؤسسات الدولة الاقتصادية التي همشت هي الأكثر ضمانة وديمومة، ولكن على الرغم من ذلك تضاءلت في هذا العام مخصصات الإنفاق الاستثماري عموماً ومخصصات الصناعة تحديداً، ولم تجر خطوات جدية لحماية المدن الصناعية من الدمار، ولم تمنع الكثير من الصناعات العريقة في سورية عن مغادرة البلاد والهروب بأموالها وآلاتها.

إذاً على صعيد ملء الفراغ الإنتاجي من جهاز الدولة تبدو الخطوات بطيئة ومتثاقلة، ولم تسجل حتى اليوم أية نقطة إيجابية تدل على أن الأزمة قد ضغطت أصحاب سياسة «الإهمال الممنهج «، أو دفعت باتجاه تفعيل حقيقي لدور الدولة الإنتاجي. لا بل على العكس تظهر العديد من الوقائع أن فساد جهاز الدولة لا يزال حاضراً ويقوم بردود أفعال على الضربات التي تصيبه.

حيث أن تراجع عائداته من الموارد النفطية، وتقليص إمكانيات السمسرة في التجارة الخارجية تدفع قوى الفساد التي تعتمد على موارد جهاز الدولة إلى التركيز على منبع الموارد المتبقي وهو الإنفاق الحكومي والجاري تحديداً.

قد لا تكون مصلحة الفساد هي المحدد الوحيد لبلوغ حجم الإنفاق الحكومي حجماً كبيراً مقابل تضاؤل حجم الإنفاق الاستثماري، ولكنه دلالة على عدم إمكانية تحويل قرار تفعيل دور الدولة الإنتاجي إلى واقع، والمحدد في تفسير هذه الظاهرة هو ضغط القوى الاقتصادية المتضررة من دور الدولة الاقتصادي والمستفيدة من ضعفها.

فالقطاع العام الصناعي والصناعة عموماً التي نالت العديد من الضربات الاقتصادية والأمنية خارج اعتبارات موازنة 2013 جدياً لأن حاجة هذا القطاع الحقيقية للاستثمار وللإنفاق ستحد موضوعياً من نهب مخصصاته. وهذا ما لا يناسب آليات النهب السهل السريع.

الفساد والتوزيع

تراجع دور الدولة في عملية التوزيع مع نهايات التسعينيات بشكل كبير سواء من حيث كون الدولة ومؤسساتها مشترياً أساسياً للمنتجات المحلية، ومورداً أساسياً يملك حصة في السوق المحلية. فعلى سبيل المثال لم تعد الدولة تشتري الشعير بكامله، ولم تعد المنتج الأساسي للأعلاف والبائع الرئيسي، وهذا امتد ليشمل أغلب القطاعات حتى وصل إلى المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح .. وكان الاتجاه العام هو انسحاب الدولة ليملأ القطاع الخاص هذا الفراغ ومع كل تراجع في الدور التوزيعي للدولة، كانت إمكانياتها على الضبط والتحكم بالسوق تنخفض.

اليوم في الأزمة فقد القطاع الخاص الكثير من قدرته على تأمين استمرارية عمليات التوزيع، تاركاً الفراغ ليملأه إما كبار المحتكرين أو لتملأه الدولة من جديد ولكن بمواردها الضعيفة وبفقدانها المرونة تصبح الاستجابة السريعة لهذه العملية صعبة.

الموارد المخصصة للقيام بهذا الدور، أي دعم المنتجين بشراء الإنتاج المحلي، ودعم المستهلكين بالبيع من جهاز الدولة ومؤسساته  هي من الإنفاق الحكومي الجاري أحد أهم المنابع التي يضعها فساد جهاز الدولة نصب عينيه.

لذلك فإن هذا الإنفاق هو اليوم موضع صراع بين قوى الفساد وبين كل القوى التي تضغط باتجاه أن يملأ جهاز الدولة الفراغ الذي تخلقه الازمة وهي المهمة التي إذا لم تتم فإن الاختناقات والأزمات ستستمر وتتفاقم مع استمرار العنف والحرب الدائرة. 

تركز الفساد

ينطبق على فساد جهاز الدولة أو الريع المتسلق على مواردها، القوانين التي تنطبق على الريع عموماً حيث مع اتساع دائرة الريع يضيق توزيعه وتتحدد رؤوس الفساد التي تحصله، ولكن بالوقت نفسه فإنه يمتن آلياته وتتسع دائرة المصالح المرتبطة به. ويصبح كسره صعباً.ً

إلا أن تركز الريع يحمل عاملا إيجابياً في هذه اللحظة، حيث أن التراجع الجدي للعوائد التي يحصلها الفساد من قطاع النفط  والتجارة الخارجية ستضعف من قدرة هذه القوى وتحمل أثاراً إيجابية لمواجهة الدور السلبي الذي تلعبه في المواضع الأخرى.

ربما لم يشهد عام 2012 مواجهة مباشرة مع الفساد فلم نر مصادرة لأموال فاسد كبير وتحويلها إلى موارد عامة للدولة.

ولكن سجلت نقاط لمصلحة جميع القوى التي تعمل للصالح العام باجتثاث أدوات هامة من أدوات الفساد الكبير، ولا بد أن ذلك سيحمل نتائج ومضاعفات إيجابية ستظهر في زيادة مرونة جهاز الدولة، وسيره بالاتجاه الصحيح وتحديداً في استعادة مهماته الإنتاجية والتوزيعية.

وربما ستحمل السنة القادمة نتائج الصراع على موارد الدولة المخصصة للإنفاق الحكومي كشكل من أشكال الصراع بين قوى الفساد من جهة، وبين جميع قوى المجتمع وفعالياته الاقتصادية والاجتماعية الشعبية التي تولد اليوم الظروف المناسبة لاستعادة حقها باسترداد المال المنهوب تاريخياً وبإيقاف نزف الموارد، وإنقاذ الاقتصاد السوري من التدهور والانهيار، مع ما يمكن أن يجره هذا على المجتمع السوري والدولة ككل.