من الضفة إلى القدس… عدوٌ واهنٌ وقبضة مرخية

من الضفة إلى القدس… عدوٌ واهنٌ وقبضة مرخية

لو حاولنا تصوّر أسوأ لحظة تاريخية مرّ بها الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، فلن تكون أشد قتامةً من اللحظة الراهنة، فبعد تفاقم الأزمة الداخلية وخروج أكثر من 100 ألف متظاهر إلى الشوارع، اتّجه الكيان نحو موجة جديدة من التصعيد ضد الفلسطينيين، لكن رد المقاومة الشعبية البطولي الشرس لم يكن بالحسبان، ولا يمكن حتى اللحظة التنبؤ بذروة ما يجري.

بعد أيام من اقتحام استفزازي جديد نفذه ضباط صهاينة للمسجد الأقصى في القدس المحتلة، استيقظ مخيم جنين في الضفة الغربية على عملية لجيش الاحتلال في محاولة لضرب بؤر المقاومة الناشطة بشكلٍ واضح في المخيم، والتي نفّذت مجموعة من العمليات البطولية مؤخراً أرهقت الكيان ومستوطنيه.

الاقتحام الأعنف منذ 20 عاماً

العملية التي أطلقها جيش الاحتلال صباح الخميس 26 كانون الثاني من الشهر الجاري كانت الأعنف منذ عملية «الدرع الواقي» في عامص 2001 والتي راح ضحيتها 52 فلسطينياً. فالكيان- مدفوعاً بأزمته العميقة- بات محكوماً بالتصعيد، وكما جرت العادة، يدفع الفلسطينيون ثمن قرارات الكيان من دمائهم، فالعملية الأخيرة ألحقت أضراراً كبيرة في البنية التحتية، ودمرت عدداً كبيراً من المنازل والأملاك الخاصة، استمرت فيها المعارك 4 ساعات، استُخدم خلالها الرصاص الحي والقذائف وطائرات مسيرة، ومركبات مصفحة. كما أن جنود الاحتلال استهدفوا الطواقم الطبية وسيارات الإسعاف، وذلك حسب تصريحات وزيرة الصحة الفلسطينية، مي كيلة، التي أعلنت أيضاً عن اقتحام قوات الاحتلال لمستشفى جنين الحكومي، حيث أطلقوا قنابل الغاز المسيل للدموع بشكل متعمد باتجاه قسم الأطفال، ما أدى إلى حالات اختناق. خلّفَ الهجوم على المخيم 9 شهداء، وأكثر من 20 جريحاً، بينهم حالات خطرة، ما رفع عدد الشهداء الذين قضوا في محافظة جنين إلى 59 خلال العام المنصرم.

رد شعبي كاسح

بعد الإعلان عن الحداد والإضراب العام في المخيم، تحولت مجالس العزاء في بيوت الشهداء التسعة إلى مجالس لاستقبال التبريكات، التي ترافقت مع احتفالات في المخيم وإطلاق الألعاب النارية، التي انطلقت في سماء المخيم، وذلك بعد وصول الأنباء عن عملية القدس التي نفذها الفلسطيني خيري علقم البالغ من العمر 21 عاماً. علقم الذي استشهد إثر عمليته هذه، ينتمي لعرب 48 وهو من سكان القدس، واختار مكان تنفيذ العملية في مستوطنة «النبي يعقوب» التي أنشأها الكيان على أراضٍ محتلة بعد عدوان 1967 قرب بلدة بيت حنينا. العملية باعتراف وسائل الإعلام العبرية كانت رداً على أحداث جنين التي سبقتها، ووصفت وسائل الإعلام العملية بأنها الأكبر داخل مدينة القدس منذ عام 2008، إذ وصل منفذ العملية في سيارة وأطلق النار بالقرب من كنيس يهودي. مستخدماً مسدس نصف آلي، ونجح علقم بإدامة الاشتباك لأكثر من 20 دقيقة ووجه رصاصاته بدقة، إذ أكثر من ثلث الرصاصات التي أطلقها أصابت أهدافها، ما أدى إلى مقتل 7 مستوطنين وجرح 6 آخرين، بينهم حالات خطرة ميؤوس منها. المسألة الثانية التي سببت إحراجاً شديداً لأجهزة الأمن الصهيونية، هي أن الفدائي الفلسطيني يحمل بطاقة زرقاء، ولا يوجد أي ملف أمني له، فالشاب ظهر مقاتلاً متمرساً منضبطاً مدرباً، ونجح بالانتقال من مكان إلى آخر، قبل أن يشتبك مع حاجز لقوات الاحتلال قبل استشهاده. ونقلت وسائل الإعلام العبرية عن شاهدة عيان صادفت خيري علقم أثناء تنفيذ العملية، الذي أخبرها أنه لا يقتل النساء، وابتعد عنها دون إطلاق الرصاص.

عمليات متتالية

العملية شكّلت صدمة في «المجتمع الإسرائيلي» ما دفع وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، لزيارة مكان العملية، إلا أن الهجوم الشرس الذي تعرض له من المستوطنين الغاضبين دفع إلى إجلاء الوزير تحت حماية مشددة. وتفاقمت المشكلة بعد أن تلتها عمليات أخرى. ففي حي سلوان قام محمد عليوت (13 عاماً) -من سكان البلدة القديمة من القدس- بإطلاق النار باستخدام مسدس «إسرائيلي» الصنع، باتجاه خمسة مستوطنين، بعد أن اختبأ خلف سيارة قبل بدء العملية، وأصاب عليوت اثنين، بينهم ضابط مقاتل بلواء المظليين في جيش الاحتلال، قبل أن يستشهد برصاص مستوطن كان متواجداً في موقع العملية. لم يمض وقت طويل قبل أنباء عن عملية أخرى في مطعم في مدينة أريحا بالضفة الغربية. لم يعلن عن إصابات، وأوردت وسائل الإعلام عن أن الشاب الفلسطيني واجه مشكلة تقنية بالسلاح الذي استخدمه، ما دفعه للابتعاد عن المكان دون أن يتعرض للأذى. وفي سياق متصل أعلنت مجموعة «عرين الأسود» في بيان صحفي، تنفيذها عدة هجمات على نقاط لقوات الاحتلال، مثل: معسكر «حوارة»، وحاجز «حوارة» العسكري، جنوب مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية.

قوات الاحتلال بدأت فوراً بإجراءات عقابية بحق الفلسطينيين، وعوائل وأقرباء منفذي العمليات الأخيرة، إذ عقد اجتماع «الكابينت» في مقر جهاز الأمن العام في شمال «تل أبيب»، بدلاً من مقر الحكومة الواقع في وسطها، وذلك بسبب تجنب مظاهرات محتملة. ويجري الحديث عن إجراءات واسعة، مثل: قانون يقضي بترحيل عائلات منفذي العمليات حتى من القدس الشرقية، هذا بالإضافة إلى دعوات لتسريع منح التراخيص والميزانيات اللازمة لشراء آلاف الأسلحة للمستوطنين ما يمكن أن يصعب المهمة أمام المقاومة الفلسطينية، التي يمكن أن تشتبك مع مستوطنين مسلحين قبل وصول قوات الجيش المدربة. وهو ما تعهد به بن غفير، الذي صرّح لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، أنه: «يجب أن نُغير قريباً سياسة التّسلح.. يجب أن يكون هناك سلاح لدى كل «إسرائيلي». ما يعني نقل المعركة إلى مواجهة شاملة بين الفلسطينيين والمستوطنين، لن تكون في صالح الكيان أبداً.

الكيان يصل يوماً بعد يوم إلى طريق تضيق فيه الخيارات أكثر فأكثر، فخيار التصعيد الذي يبدو خيار النخب الإجرامية الوحيد، يجر الويلات على «إسرائيل» لا بالمعنى الأمني فحسب، فالعمليات الأخيرة أثبتت مجدداً ودون شك حجم الفجوة الأمنية الموجودة، حتى في مناطق عرب 48 التي اعتبر الاحتلال أنه طوى صفحتها منذ زمن. لكن المشكلة الأكبر أن أية خطوة تصعيدية من قبل الاحتلال تفرض عليه التعامل مع مجموعة من الضغوط الجديدة. والمقصود هنا مسألتان أساسيتان، فالجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال في جنين، وما رافقها من تعاطف ورد فعل شعبي، يضع السلطة الفلسطينية في مأزق لا مخرج منه، وإن كان وجود هذه السلطة بشكلها هذا لعب دوراً داعماً للاحتلال، فهي اليوم أكثر ضعفاً من أي وقتٍ سابق، وسقوط سلطة أوسلو لن يطول كثيراً، وسيحمل معه ظروفاً أصعب وأكثر تعقيداً على الكيان. ومن جهة أخرى خرجت دول عربية مطبعة- بالإضافة للسعودية التي لا توجد علاقات معلنة بينها وبين دولة الاحتلال- بإطلاق تصريحات مشينة، تعاطفت مع المستوطنين الذين استهدفتهم عمليات المقاومة في الأيام الماضية، متناسين أن الاستيطان جريمة، وأن المعركة على الأرض والحقوق لا تمييز بين جنود ومدنيين، وخصوصاً مع السعي الصهيوني الدائم لتحويل كل المستوطنين إلى مسلحين جاهزين لمواجهة الفدائيين الفلسطينيين، الذين كانوا دائماً جزءاً من نسيج شعبي مقاوم. بيانات دول التطبيع ومن حولهم من شخصيات، ورغم تصريحات وزير الخارجية «الإسرائيلي» المرحبة بهذه المواقف، تشكّل عامل ضغط إضافي على حكومات التطبيع، وتضعها أمام «محكمة شعوبها» ففي الوقت الذي يوزّع المصريين الحلويات فرحاً بالعملية، يخرج رجل الأعمال المصري ليصف منفذ العملية «بالإرهابي» ما يجعل حدود الفصل بين شعوبنا وأعدائهم أكثر وضوحاً، وهو ما لا يمكن أن يجلب خيراً للكيان الذي تخادم تاريخياً مع أنظمة فاسدة، استخدمته كشماعة لقمع وتجويع شعوبها، وكانت جاهزة دائمة لعقد الصفقات من تحت الطاولة وفوقها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1107
آخر تعديل على الثلاثاء, 31 كانون2/يناير 2023 08:42