الصين وإيران... وقت قصير يفصلنا عن مناورات كبرى

الصين وإيران... وقت قصير يفصلنا عن مناورات كبرى

في الوقت الذي تنشغل وسائل الإعلام بنقاط التوتر والنزاعات المستمرة، تغيب التقاربات الإستراتيجية الكبرى عن الصورة، ولعل أبرز هذه التقاربات هو الذي يجري بين الصين وإيران، والذي لا يمكن اعتباره حدثاً محدود التأثير، بل وعدا عن دوره الفعّال في حلّ النزاعات المستمرة، سيشكّل هذا التقارب والتحالف خزاناً للاحتمالات السياسية المتنوعة التي تشترك فيما بينها بأنها لا تخدم المشروع الغربي القائم على الفوضى. 

قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بزيارة رسمية إلى جمهورية الصين الشعبية في 10 تشرين الأول الجاري، وعقد اجتماعاً مع عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي في مقاطعة يوننان جنوب غربي الصين. ونقلت وسائل الإعلام تصريحات من الجانبين اللذين ثمّنا آفاق التعاون بين البلدين، فأكد وانغ عزم بلاده على تعزيز التعاون مع إيران في جملة من القضايا، أبرزها: «الدفاع المشترك عن التعددية ورفض النهج الأحادي الذي تقوده واشنطن»، وكرر دعم بلاده لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2231 وضرورة حماية الاتفاق النووي الإيراني. ومن جانبه رحّب ظريف بعزم الصين مساعدة الدول النامية في تأمين لقاح لمكافحة كوفيد-19، وأعلن ترحيب بلاده بالمبادرة الجديدة التي طرحها وزير الخارجية الصيني، والتي تقترح «إنشاء منصة لحوار متعدد الأطراف وإقليمي لتهدئة التوتر في الشرق الأوسط، تشارك فيها كل الأطراف المعنية بشكلٍ متساوٍ من أجل تحسين التفاهم المتبادل من خلال الحوار، ومناقشة الوسائل السياسية والدبلوماسية لحل المشاكل الأمنية».

ورغم أن التصريحات الصينية والإيرانية التي تتحدى السلوك الأمريكي ليست جديدة، بل باتت مألوفة ومتكررة، يشكّل أي لقاءٍ أو إعلانٍ مشتركٍ بين البلدين حدثاً شديد الخطورة بالنسبة للولايات المتحدة، والتي ترى مع أتباعها في هذه الشراكة الإستراتيجية الصينية- الإيرانية تهديداً كبيراً، ويبدو أنه بات من الصعب إيقافه.

ماذا لو؟

السيناريوهات التي تناقش «ماذا كان يمكن أن يحصل لو جرى خلاف ما جرى.» لا تعتبر سيناريوهات مرغوبة في عالم السياسة، لأنها ببساطة لم تحصل! ولا ينفع نقاشها في تغيير الواقع الذي ينبغي التعامل معه ونسيان كل الاحتمالات «الوردية» التي لم تحصل. لكن وعند نقاش التراجع الأمريكي على المستوى العالمي تصبح لهذه السيناريوهات نكهة خاصة، فهي تُظهر حجم المأزق الأمريكي، وتظهر مرارة أحلى السيناريوهات الأمريكية المطروحة.

مع توقيع الاتفاق النووي الإيراني في 2015 وصدور قرار مجلس الأمن 2231 الذي تبنى نص الاتفاق، وأقر بحق إيران بإنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، وجدت الولايات المتحدة- المنقسمة- نفسها في مأزق وأمام سيناريوهات سوداء، فإيران دولة تملك ميزات حقيقية، وتعتبر دولة متقدمة بالمعنى التكنولوجي والاقتصادي والعسكري، واستطاعت الوصول إلى هذا الموقع المتقدم على الرغم من الحصار الغربي والعقوبات الدولية. لذلك رأت بعض النخب الأمريكية أن الوضع الجديد لإيران والمغطى بالشرعية الدولية سيشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأمريكية، فعلى الرغم من أن بعض المحللين الإستراتيجيين اعتبروا أن فتح باب العلاقات بين إيران والغرب سيساعد في احتواء إيران وجرها إلى المعسكر الآخر بدعم من علاقات المصلحة، وعبر إيجاد بعض الشخصيات الإيرانية «غربية الهوى» التي يمكن أن تنجز هذه المهمة، وعلى الرغم من أن سيناريو كهذا يشكّل مادة للنقاش، إلا أن الأمور مضت في اتجاهٍ مختلفٍ تماماً، فكان لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رأيٌ مختلف، يمكن تلخيصه بإعادة الضغط على إيران وإعاقة تطورها واندماجها مع المجتمع الدولي. وجرى ذلك عبر ثلاث خطوات أساسية، أولاها: الانسحاب من الاتفاق النووي. والثانية: عبر فرض العقوبات الأحادية، والمحاولات المستمرة لإعادة فرض العقوبات الدولية. وكانت الخطوة الثالثة والتي شكّلت علامة فارقة، وهي: الضغط على الأوروبيين وابتزازهم مما أدى إلى إعاقة بناء علاقات متينة بين أوروبا وإيران، ما يعني أن تجد إيران نفسها مجدداً معزولة وغير قادرة على إنجاز الخطوة القادمة التي تطمح لها.

ولأن سيناريو احتواء إيران ضمن البيت الغربي – وبغض النظر عن إمكانية تطبيقه – لم يحصل، قررت الولايات المتحدة العودة إلى التصعيد مجدداً، وجدت نفسها أمام سيناريو جديد مخيف وأشد خطورة مما كانت تتوقع.

إيران تنظر إلى الشرق!

لأن رغبة إيران الخروج من هذه العزلة كانت دائماً رغبةً جادة، لم يكن ممكناً تجاهل ما تستطيع الصين تقديمه في هذا الخصوص، وحددت الوثيقة المسربة لخطة التعاون الإستراتيجي بين البلدين- ولمدة تمتد حتى ربع قرن قادم- ملامح هذا التعاون، وإن كان لا مجال لسرد التفاصيل الواردة في الوثيقة والتي تتألف من 18 صفحة، يمكن تثبيت بعض النقاط الأساسية حولها.

ستقوم إيران بتزويد الصين بجزء كبير من النفط والغاز الذي تحتاجه الأخيرة، والتي ستضخ في المقابل استثمارات كبيرة في الاقتصاد الإيراني تصل إلى 400 مليار دولار، يجري الحديث بشكل مفصّل عن القطاعات التي سيجري ضخ هذه المليارات في شرايينها، وتشترك جميعها بأنها قطاعات حيوية جداً تستهدف البنية التحتية وطرق النقل المختلفة، وما تحتاجه من شبكات متطورة. بالإضافة إلى تعاون وتنسيق أمني وعسكري.

بمجرد النظر إلى الخطوط الأساسية لهذه الاتفاقية التي يجري النقاش حولها يتبين أنها ستساهم بشكل فاعل في تغيير وجه المنطقة حقاً، وإذا كان البعض يرى في ذلك مبالغة يمكن العودة إلى المقال المنشور في مجلة الفورين بوليسي والذي يناقش آثار التعاون الصيني الإيراني على المنطقة، ويبرهن فشل الإستراتيجية الأمريكية في احتواء إيران.

تحتاج الصين إلى إيران، والتي تشكّل في المعنى الجيوسياسي إحدى المنصات الأساسية للمشروع الصيني «الحزام والطريق» بل يمكن القول بكل بساطة: إن هذا المشروع الإستراتيجي العملاق سيواجه صعوبة حقيقة إن لم تكن إيران لاعباً أساساً فيه، والتي ترى الأمور بدورها بشكلٍ واضح، فهي تضمن في هذه العلاقة زبوناً موثوقاً لنفطها الذي يتعرض لحملة تضييق أمريكية غير مسبوقة، مما يعني سيولة نقدية مضمونة، هذا بالإضافة إلى الفوائد التجارية والاقتصادية الأخرى، والتي ستترافق مع مظلة سياسية عسكرية صينية ستساهم بضمان استقرار إيران، وإبعاد التهديدات المحيطة بها.

المناورة الكبرى قادمة!

عند إعادة ترتيب بعض الأفكار على الخريطة الإستراتيجية الواسعة يمكن لنا أن نرى نقاط علاّم واضحة. فإذا تكللت الشراكة الصينية الإيرانية بالنجاح، وهو احتمال، على الرغم من أنه يواجه صعوبات وتحديات إلا أنه يتمتع بحظوظ كبيرة، ستكون الصورة كما يلي:

تعمل إيران على نقل تصدير النفط من الموانئ الواقعة في داخل الخليج العربي إلى خليج عمان عبر تطوير البنية التحتية لمينائين إستراتيجيين، وهما: تشابهار وجاسك، وستفتح هذه الخطوة الباب واسعاً باتجاهين. فمن جهة إيران ستضمن منفذاً لنفطها إلى الخارج بعيداً عن ساحة التوتر الأساسية في داخل مياه الخليج، وتضمن الصين بذلك مورداً للنفط غير السعودية التي تعتبر حتى اللحظة واقعة تحت التأثير الأمريكي، وهو ما يعتبر عاملاً مقلقاً بالنسبة للصين التي تستورد أكثر من نصف احتياجاتها النفطية من هذه المنطقة. بالإضافة إلى الطريق البحري هذا، تسعى الصين وإيران إلى مد أنابيب نفط برية عبر أفغانستان، وهو ما يضمن تدفقاً مستقراً خارج مناطق التأثير الأمريكي، وخصوصاً بعد الانسحابات المتسارعة للقوات الأمريكية من أفغانستان.

تشكّل الولايات المتحدة تهديداً كبيراً على الصين وإيران، فهي تسيطر على طرق إمداد النفط إلى الصين وتضغط على إيران عن طريق العقوبات، لذلك يمكن لهذه الشراكة أن تؤرض التهديدات الأمريكية بشكلٍ كبير، ما يعني بالمحصلة: قدرة كبيرة جداً للمناورة عند الصينيين والإيرانيين، وهنا تكمن النقطة المركزية. فتحكم الولايات المتحدة بالعديد من مفاصل الاقتصاد العالمي، والطرق الإستراتيجية، وبعض موارد الطاقة الأساسية يعني: ضمان ألّا يسعى الخصوم إلى تصعيد أكبر في مواجهة الولايات المتحدة. فعلى الرغم من القدرة الإيرانية العالية في مواجهة النفوذ الأمريكي في المنطقة، والإنجازات الحقيقية التي استطاعت تحقيقها، إلّا أنها لن تكون قادرة على إنجاز مهمة إخراج الولايات المتحدة من المنطقة بشكلٍ منفرد، وإن كانت الصين لم تستطع في السابق الاستغناء عن مُوردي النفط الأساسيين، فهي اليوم قادرة على لعب دورٍ فاعل في مهمة إخراج الولايات المتحدة من المنطقة عن طريق سحبها لخيوط الضغط الأمريكية بشكل تدريجي ودقيق. ليكون بذلك قلق قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي من السعي الإيراني لإخراج بلاده من المنطقة أقل من المطلوب، فعليه أن يقلق اليوم من أن إيران ستمضي في هذه المهمة، لكن هذه المرة مدعومة بتغطية صينية، يمكن أن تتخطى الجانب السياسي، وأن تشمل الجوانب الأمنية والعسكرية المذكورة في اتفاقية التعاون الإستراتيجي.

قامت الصين وروسيا وإيران بمناورات عسكرية مشتركة، انطلقت من ميناء تشابهار في أواخر العام الماضي، وحملت هذه المناورات رسالة واضحة، بأن الدول الثلاث تعمل بشكل مشترك عسكرياً ومن ميناء إستراتيجي هام، مما يعني أن هذا التحالف ماضٍ في تثبيت أقدامه في أرضه عبر عزل الولايات المتحدة وإخراجها من موقعها الإستراتيجي، لتكتمل بذلك الشروط الأساسية لعصر جديد ستعيشه هذه المنطقة، لا يعني هذا بالطبع أن تصبح دول الخليج العربي فريسة لإيران، بل على العكس من ذلك، فالصين وروسيا تدركان أن أمن المنطقة لن يكون إلا بتأمين الأمن الجماعي لكل دول الخليج، ويتم ذلك كما طرح في الاقتراح الصيني عن «منصة حوار متعدد الأطراف» يسمح بإيجاد توافقات بشكل سلمي، ويتقاطع الطرح الصيني هذا مع المبادرة الروسية لأمن الخليج التي جرى الإعلان عنها في تموز 2019. أي: إن الصين وروسيا تشتركان في وجهات النظر التي تقول: إن الملفات الساخنة في منطقة الخليج يمكن أن تحل عبر عدم تسخيف مخاوف الخليج العربي، وإيجاد الضمانات المناسبة للحد من هذه المخاوف، ولكن والأهم من ذلك هو :تأريض الدور الأمريكي الذي لم يلعب حتى اللحظة إلا دور التوتير والاستفزاز، والذي حوّل الخليج إلى قاعدة أمريكية لمجابهة إيران وتهديدها.

شراكة وُلدت لتستمر

الأسس التي تقوم عليها هذه الشراكة الواعدة أسسٌ متينة حقاً، فيشترك البلدان بخصومتهم مع الولايات المتحدة، التي تشن حرباً سياسية وتجارية عليهما معاً. لذلك يرى الصينيون في الإيرانيين حليفاً موثوقاً ومؤتمناً من هذه الناحية، ويبادلهم الإيرانييون هذه الثقة، ولأن شراكة كهذه ستحمل منفعة مشتركة ومتشابكة سيكون من الصعب فصلها، بل وستضع هذه الشراكة جدول أعمالٍ مشترك سيكون موضوعه ضمان الاستقرار في منطقة نشاطهم الحيوي، والتي تشمل ممراً اقتصادياً يمر من الصين إلى أفغانستان ومن ثم إلى إيران، والذي يعني موقعاً متميزاً للصين في منطقة الخليج ومعبراً باتجاه تركيا والمتوسط ويعطي لإيران إلى جانب السيولة النقدية ومنافذ التبادل التجاري التي ستؤمنها هذا العلاقة، دور العقدة الإستراتيجية المتينة لهذا التحالف الواسع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
987
آخر تعديل على الإثنين, 12 تشرين1/أكتوير 2020 09:36