كابوسٌ أمريكي: «مشروع روسي» لأمن الخليج!

في حدث لا يخلو من الطرافة قامت وزارة الخارجية الروسية بنشر تغريدة على موقع تويتر في 14 آب الجاري تطلب فيها من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب النظر في مقترح الرئاسة الروسية حول منطقة الخليج، وجاء في هذا التصريح: «سمعنا أنه لم يتم إبلاغكم بالمقترح [...] باختصار: نقترح إحلال الأمن في الخليج»، وطلبت الخارجية الروسية من ترامب التحلي بالهدوء ومتابعة حسابها الرسمي على «تويتر»، كي لا يفوت الرئيس الأمريكي شيء مما يحدث «حينما يكون وزير الخارجية بومبيو منشغلاً».

جاءت هذه الخطوة بعد أن قال ترامب أنه لم يتم إخباره بعد بخصوص القمة التي اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقدها، وبغض النظر إن كان ترامب صادقاً في تصريحه هذا أم لا، فلا شك أن الخطوة الروسية شكلت أزمةً حقيقية داخل الولايات المتحدة، لا بسبب المبادئ التي تنطلق منها هذا المبادرة فحسب، بل لأن أية مباحثات دولية تكون الولايات المتحدة جزءاً منها لا يمكن إلا أن تظهر وزنها المتضائل من جهة، ومن جهة أخرى يعتبر أي نقاشٍ أمريكي داخلي حول دور الولايات المتحدة في العالم نقطة أساسية لخلاف النخب الأمريكية المنقسمة، ومن هذه النقطة لا يمكن استبعاد أن أطرافاً داخل الإدارة الأمريكية تخفي معلومات معينة كيما تستخدم كأوراق بيد خصومهم في الداخل.

عن ماذا تتحدث روسيا بالضبط؟

اقترح الرئيس الروسي عقد اجتماع انطلاقاً من التصعيد الأمريكي في مجلس الأمن ضد إيران، والتي اعتبرها بيان الرئاسة الروسية اتهامات لا أساس لها، يجري من خلالها طرح مشاريع لقرارت جديدة على أمل إلغاء قرارت قديمة جرى إقرارها بالإجماع في مجلس الأمن.

وتنطلق روسيا في دعوتها من نقاط إرتكاز واضحة، فهي ترى نفسها طرفاً ملتزم بمخرجات «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي استطاعت التوصل إلى إتفاق النووي الإيراني في لوزان 2015، وترى القرار 2231 والذي تبنى مجلس الأمن بموجبه مخرجات اتفاق لوزان بوصفه نقطة للبناء عليها والاستفادة منها، ولا ترى فيه موضوعاً للنقاش، بالإضافة إلى إشارة واضحة إلى الوثيقة الرسمية الروسية التي قدمت اقتراحاً ملومساً في أواخر تموز 2019.

ومع عرض هذه العناصر الأولية، يمكننا فهم المأزق الأمريكي فعدا عن كون الدعوة تهدف لإيجاد آلية موثوقة لضمان الأمن وبناء الثقة في الخليج، وهو ما يخالف التوجه الأمريكي، فهي تنطلق من مسلّمات غير قابلة للتفاوض، وهي قرارت مجلس الأمن ذات الصلة، والتي تعلن الولايات المتحدة أنها لا تلبي طموحاتها، بالإضافة إلى أن لا مبرر لرفض هذه المبادرة، فهي تتمتع بمرونة إذ أنها لا تفرض ما جاء فيها على أحد، بل تدعو الدول التي تلقت الدعوة للموافقة المبدئية على منع التصعيد ليجري لاحقاً ضمن وزارات الخارجية للدول السبع وضع جدول أعمال والاتفاق على التفاصيل الأخرى لعقد هذا الاجتماع.

عن أية وثيقة روسية نتحدث؟

قدم الممثل الرئاسي الخاص للشرق الأوسط وإفريقيا ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف في 23 تموز 2019 نسخة من الوثيقة التي أعدها بعنوان «مفهوم الأمن الجماعي لمنطقة الخليج الفارسي»، والتي تمثل الرؤية الرسمية الروسية للحل في منطقة الخليج، وعرض بوغدانوف اجتماعاً عقده في الخارجية الروسية وقدم نسخاً من هذه الوثيقة لممثلين من الدول العربية وإيران وتركيا وأعضاء مجلس الأمن الدائمين، وممثل عن الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ودول «بريكس»، وجرى في الاجتماع عرضٌ مفصل للاقتراح الروسي الذي يمثل كارثة حقيقية بحق مشروع الفوضى الأمريكي، فتذهب الوثيقة إلى مفاصل الصراع في المنطقة، وتبحث عن صواعق التفجير لتعطيلها وانتزاعها، وإذا أردنا الحديث بشكلٍ مفصلٍ بعض الشيء، فالوثيقة تتحدث حول جملة من القضايا، فهي تصر على المفاوضات كطريقٍ وحيد لحل المشاكل في الخليج، وتدفع إلى تطبيع العلاقات بين إيران ودول الخليج التي اتسمت بالتوتر طوال عقود، وترى أن هذا التطبيع يمكن أن يتم عبر إجراءات بناء الثقة والتعاون في كل الميادين، وآليات متفق عليها لتخفيض التوتر العسكري، عبر خفض التسليح والمراقبة المشتركة، وإنشاء مناطق منزوعة السلاح وغيرها من الآليات المعروفة دولياً، وتهدف المبادرة الروسية على الأمد البعيد إنشاء ما أسمته «منظمة الأمن والتعاون في الخليج العربي» (PGSCO)، التي لا تضم دول الخليج وإيران فحسب، بل كل الدول التي ترتبط مصالحها بهذه المنطقة، مثل: روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية والهند والاتحاد الأوروبي، وإن كان ما سبق ذكره يشكل تهديداً للمشروع الأمريكي في الخليج فإن الوثيقة تذهب إلى أكثر من ذلك، فتقول صراحةً إن ملفات المنطقة متشابكة ولا يمكن الفصل بينها، وإن كان الهدف هو إيجاد آلية لضمان أمن الخليج فلا يمكن إنجاز هذه المهمة بشكل منفرد وبفصلها عن القضايا الأخرى، لذلك تتطرق الوثيقة إلى ضرورة العمل الفاعل لإنهاء التوتر في سورية والعراق واليمن، وتصرّ الوثيقة على أن محاربة الإرهاب لا بد منها على أن تمر عبر مجلس الأمن حصرياً، ويذهب الطرح الروسي أبعد من ذلك، فتشير الوثيقة إلى أن الصراع العربي «الإسرائيلي» شكّل واحداً من الأسباب الكبرى لعدم الاستقرار في المنطقة كلها، ولذلك ينبغي حله.

أين تكمن المشكلة الأمريكية؟

لا شك أن الوثيقة الروسية تشكل ضربةً للمشروع الأمريكي، فهي تحرمه من تذكية الصراع العربي- الإيراني الذي استثمرت فيه واشنطن وراهنت عليه دائماً، وتشير إلى ضرورة عدم وجود قوات أجنبية في منطقة الخليج، في إشارة واضحة إلى القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة، لكن ما ذُكر كله يشكّل وجهة نظر فريق ما، ودعوة للنقاش ولا تعتبر واشنطن معنية به إن لم تعلن موافقتها، لكن مشكلة الولايات المتحدة تكمن في أن تصبح مبادرات السلام «موضة» دولية، فهذه المبادرة الروسية تشمل رقعة واسعةً احتضنت عشرات النزاعات والحروب، وربما يفتح هذا الباب أمام مبادرةٍ أخرى في بقعٍ أخرى من الكوكب الملتهب.

الحقيقة، هي أن أي مركز أبحاث يستطيع إيجاد حلٍ لتخفيف التوتر في أية منطقة عبر البحث الموضوعي عن صواعق التفجير، والأسباب العميقة للتوتر، وإيجاد تسوية ملائمة، لكن هذا يبقى حبراً على ورق وغير ملزم، لكن ما يخيف واشنطن أن روسيا تسعى عبر طرحها هذا - الذي لاقى قبولاً ودعماً صينياً- لا لنقاش مبادرة سلام مكتوبة بل لتوريط كل المعنيين في هذه المبادرة، وجعلهم أطرافاً فيها يشاركون في صياغتها ويتعهدون باحترام مخرجاتها، وهذا ما يؤمن لهذا النوع من المبادرات تغطيةً إقليمية ودولية تضمن أرضيةً متينةً لتطبيقها لاحقاً.