بروفة أولية... إيران والصين وربع قرن لتعاون إستراتيجي قادم
جرى في الأيام القليلة الماضية تداول مجموعة من المقالات التي تتحدث عن اتفاقية للتعاون الإستراتيجي بين الصين وإيران تمتد إلى ربع قرن قادم، وعلى الرغم من أن مضمون هذه الوثيقة لا يزال ضمن إطار التسريبات والتكهنات، إلا أن مضمونها يشكّل موضوعاً جديداً للقلق الغربي، فكيف يمكن فهم هذا التوجه لدى البلدين الذي يتمظهر اليوم على شكل اتفاق طويل الأمد؟
قبل الدخول فيما يجري تداوله حول اتفاق التعاون الإستراتيجي هذا، يجب الوقوف عند الزوايا التي يجري الهجوم عليه ضمنها، فيرى فيه البعض اتفاقاً يضرُ بمصالح إيران، ويعطي للصين امتيازات استثمارية وإستراتيجية كبيرة جداً، مما يجعل الاقتصاد الإيراني خاضعاً للاقتصاد الصيني، ويرى هؤلاء: أن الصين ستكون المستفيد الأكبر من هذا التعاون. أما الفريق الآخر فيهاجم هذا التعاون بوصفه تحدياً للعقوبات الأمريكية وحصارها، الذي لم يستطع أحدٌ كسره، لأنه سيعلن بذلك تحديه للإرادة الأمريكية، وهذا ما لا تعيره الصين اهتماماً كبيراً، ويحاول الاتحاد الأوروبي إيجاد مخرج من هذه الورطة، لكنه لم يستطع إلى اليوم حسم خياراته بشكلٍ معلن.
ما الذي يجري تداوله؟
تقول الوثيقة المسربة: إن إيران ستلتزم بتوريد الطاقة إلى الصين لمدة تصل إلى 25 سنة وأن تراعي الحكومة الإيرانية رغبة الصين في الاسثتمار ضمن قطاعات استخراج وإنتاج الطاقة في البلاد، وتشجع الاتفاقية الصين على المشاركة في مشاريع السكك الحديدية، وبناء الطرق التي تحتاجها إيران، مثل: شبكة السكك الحديدية الوطنية التي تسعى إيران إلى إنجازها بغرض ربط شرق البلاد بغربها، التي لم تنجز حتى اليوم، وتتحدث المصادر غير الرسمية، أنه ستكون للصين حصة كبيرة في قطاع الهندسة المدنية الإيرانية. ويضاف إلى ذلك تتعهد الاتفاقية التي تقع في 18 صفحة أن تسهم الصين بشكلٍ فعّال في تطوير المطارات الإيرانية عبر تطوير نظم الملاحة وبنيتها التحتية.
أما عن المشاريع المعلن عنها على الساحل الإيراني، فيبدو حسب هذه المصادر أن للصين حصة جيدة من هذه المشاريع أيضاً، فستهتم الأخيرة بتطوير الموانئ والمنطقة الساحلية في مقاطعة هرمزگان، والتي تشرف على مضيق هرمز الإستراتيجي، وسيضمن تطوير هذه المنطقة بناء مصافٍ نفطية ومدينة صناعية وتطوير صناعات ترتبط بالبتروكيماويات والصلب والألمنيوم، بالإضافة إلى بعض المرافق ذات الطابع السياحي.
أما قطاع الاتصالات، فكانت له حصةٌ أيضاً، ففي الوقت الذي لا يزال العالم منقسماً حول شبكة الجيل الخامس الصينية، تنص الاتفاقية أن تزود الصين إيران بشبكة تغطي البلاد، مع تأمين مجموعة من المنتجات والخدمات، مثل: تطوير محركات البحث ومنصات التراسل الفوري والبريد الإلكتروني ومضادات الفيروسات وأجهزة البث وتحديد المواقع، بالإضافة إلى أجهزة الهاتف المحمول والحواسيب اللوحية.
يشمل الحديث أيضاً: تعاوناً عسكرياً وأمنياً غير مسبوق بين البلدين، يتضمن مناورات عسكرية مشتركة، بالإضافة إلى تطوير مشترك للصناعات الدفاعية، ومشروعاً لتجارة الأسلحة بين البلدين، ويتعهد البلدان بتنسيق جهودهم في سبيل محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة والإتجار بالبشر. ورأت جريدة نيويورك تايمز بالتعاون العسكري بين البلدين بأنه سيمكّن الصين من أن تحصل على موضع قدمٍ في منطقة كانت تُعد مصدراً للقلق الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية لعقودٍ مضت.
بين الحقائق والتسريبات
تعد الوثائق المسربة- بغض النظر عن الجهة التي تقف وراء تسريبها، وبغض النظر عن نسبة الحقيقة في هذه التسريبات- ذات دلالات سياسية، فما يجري تسريبه هو تفاصيل عن طبيعة التعاون الصيني- الإيراني القادم، لكن الإطار العام لهذا التعاون هو الرسالة السياسية الأهم، فقد أعلن الرئيس الصيني في شباط 2016 في زيارته إلى طهران عقب توقيع الاتفاق النووي الإيراني عن عزم البلدين الدخول في مفاوضات بغرض إبرام اتفاقية تعاون شاملة مدتها 25 عاماً، وهذا ما اعتبره المرشد الأعلى في إيران أمراً صحيحاً وحكيماً، أي: إن الإعلان الرسمي عن هذه الاتفاقية جرى منذ 4 سنوات، ولم يكن تسريباً على الإطلاق! بل إعلاناً صريحاً لشراكة إستراتيجية ستمتد إلى ربع قرن في عالمٍ سريع التغيير، ويبدو واضحاً: أن مستقبل العلاقة بين الصين وإيران أمرٌ حتميٌ لن يتغير بسهولة، لأنه قائمٌ قبل كل شيء على مصالح عميقة مشتركة لا بين إيران والصين فحسب، بل بين الدول الممتدة من الصين إلى المتوسط جميعها، فشبكة السكك الحديدية التي يجري الحديث عنها داخل إيران هي جزء من شبكة تربط باكستان والعراق وإيران وسورية، وهي جزء من مشروع تطوير للبنية التحتية في المنطقة كلها، لتشكل مجتمعة جغرافيا اقتصادية متكملة تعتمد على علاقات المصلحة المتبادلة، ولا يمكن الحديث عن هذه الاتفاقية بمعزل عن المبادرة الصينية «الحزام والطريق» التي تقوم في جوهورها على إعادة إحياء لطريق الحرير القديم، وتعد أكبر مشروع عالمي لتطوير البنية التحتية، ويمكن أن يشمل أكثر من 68 دولة تغطي 65% من سكان العالم، ومن هذا الباب تبدو الاتفاقية الصينية الإيرانية- التي يجب أن تقر من البرلمان الإيراني قبل الإعلان الرسمي عنها- مثلاً للعالم الجديد، ولا يمكن النظر لها بوصفها مشروعاً منفصلاً.
تعد الصين القوة الأقدر في العالم على رفع اقتصادات الدول الأخرى، وهي الدولة التي تستطيع تقديم مظلة دولية لبلد مثل إيران، بعد تشديد العقوبات الأمريكية لمستوى غير مسبوق، حيث بات من الواضح أن الإدارة الأمريكية تحاول إعاقة خروج أي برميل نفط من إيران، وهذا ما يضع الشعب الإيراني أمام خيارات صعبة، إلا أن إيران تملك بنية سياسية، يبدو أنها تسمح لها بالتحرك باتجاه الشرق، وحجز تذكرة للعالم الجديد. ولا داعي للخوض في التفاصيل حول الامتيازات الصينية من هذه الصفقة، فقطاع النفط الإيراني اليوم بحاجة إلى حزمة إنقاذ حقيقية، وهو ما تستطيع الصين تقديمه بمقابل ضمان حاجتها من النفط الخام، وهو ما يشكل بمجمله تحطيماً للمحاولة الأمريكية للتضيق على إيران، ويتمتع الاقتصاد الصيني بقدرة تنافسية عالية جداً، لن يكون من السهل تجاوزها، ولا يحتاج هذا توقيع اتفاقيات، فالصين ستكون قادرة على كسب مناقصات بسبب التطور التكنولوجي العالي في اقتصادها، مما يعطيها مع عناصر أخرى مكاناً متقدماً.
لا يمكن إنجاز هذا التحول الكبير في إيران- والذي يخرجها تدريجياً من نطاق التأثّر بالعقوبات- إلى نطاق أكثر مرونة وقابلية للتطور، دون إرادة سياسية حقيقية، وهذا ما تحتاجه كل دول المنطقة التي تعاني من ظروفٍ مشابهة، فلا شيء يمنع سورية والعراق ولبنان مثلاً من الالتحاق بالركب، والقطع مع منظومة النهب الغربية، التي لم تقدم لشعوب المنطقة غير صفقات سيئة، وقروضاً خلخلت سيادة دول على أراضيها، القرار الذي يبدو سهلاً وبدهياً بالنسبة لبعض البلدان، يبدو بالنسبة لتلك التي ترتبط أنظمتها بالغرب- عبر شبكة فساد عميقة- قراراً صعباً، لكن دخول هذا التعاون حيّز التنفيذ سيضع أنظمة المنطقة كلها أمام استحقاقٍ صعب مع شعوبها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 974