قصة بيلاروسية مختصرة

قصة بيلاروسية مختصرة

يبدو أن سيناريو أمريكياً جديداً لـ«بناء الديمقراطية» بات واحداً ومعمماً على كل الأهداف الأمريكية، لدرجة أن تكراره بات مفضوحاً وجلياً حدّ السذاجة، فعلى غرار بوليفيا/ آنيز وفنزويلا/ غوايدو وأوكرانيا/ زيلينسكي، أصبح لدينا الآن بيلاروس/ تيخانوفسكايا وبذات الأسلوب الذي يستهدف فترة الانتخابات الرئاسية.

إلا أن الحالة في بيلاروس الحدودية مع روسيا، تطلبت خطوةً خاصة كانت غايتها صنع أزمة سياسية مفاجئة بين البلدين، عبر لعبة استخباراتية قادتها أوكرانيا، تمثلت بدفع السلطات البيلاروسية إلى اعتقال 33 مواطناً روسياً بتهم مختلفة، لكن ما لبثت أن كشفت خطواتها الاستخبارات الروسية، وتمكنت السلطتان في موسكو ومينسك من التعامل بأعلى درجات البراغماتية الممكنة تجاه المأزق وصولاً إلى حلّه.

التمهيد

بتاريخ 17 تموز وأثناء لقائه مع رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، صرّح الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بأن هناك «أحداثاً غريبة جداً» تُرافق الحملة الانتخابية في بيلاروس، علماً بأن السلطات البيلاروسية سجّلت 6 مرشحين، من بينهم لوكاشينكو الذي يترأس البلاد منذ استقلالها في 1994 وترشح لولاية سادسة، وسفيتلانا تيخانوفسكايا. وقد سجن المعارضين فيكتور باباريكو وفاليري تسيبكالو بتهم فساد وتهرب ضريبي وتمويل غير شرعي، ومُنعا من تسجيل اسميهما بقائمة المرشحين، إثر ذلك خرجت أولى حركات الاحتجاج في البلاد بشكل محدود.
في 27 تموز اعتقلت السلطات البيلاروسية 33 مواطناً روسيا بتهم محاولة زعزعة الاستقرار داخل البلاد قُبيل الانتخابات، والإرهاب، وزعمت السلطات البيلاروسية بأن هؤلاء هم مجموعة من أصل 200 روسي متواجدين في البلاد، وتابعين لـ«شركة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة»، وبعضاً منهم كان في أوكرانيا يقاتل في مقاطعة لوغانسك، لتنشأ إثر ذلك حالة توتر سياسي بين البلدين، وليصرح الكرملين بأن هذه الاتهامات «هراء وافتراء» وأن لا وجود لما يسمى بشركات «عسكرية خاصة» في روسيا، في المقابل صعّدت كييف لتطالب بتسليمها 28 روسياً من الـ33 إلى بلادها.
في 5 آب، وبعد تحقيقات استخباراتية بالتعاون بين الجانبين الروسي والبيلاروسي، نشرت صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» الروسية تحقيقاً صحفياً يُفيد بتورط الاستخبارات الأوكرانية واستفزازها للسلطات البيلاروسية باعتقال الروس السابقين: حيث أجرت اتصالات مع المواطينن الروس التابعين لشركة «أمنية» خاصة بأرقام وأسماء وهمية من دول أخرى، بغاية حماية «منشآت نفطية» في فنزويلا، وتستدرجهم إلى مينسك كنقطة عبور، ثم تؤجل تاريخ خروجهم منها الذي كان مقرراً في 24 تموز إلى 29 تموز بشكلٍ مفاجئ، طالبةً منهم بأن يُتلفوا التذاكر السابقة، ثم تبلغ السلطات البيلاروسية بتواجد هذه المجموعة على أراضيها وليجري الاعتقال في 27 تموز.
وقد تبنت السلطات الروسية نتائج هذا التحقيق سياسياً، لتعلن المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في 8 آب بأن اعتقال المواطنين الروس كان «استفزاز دبرته دولة ثالثة، كما ينكشف حاليا بناء على الحقائق».
وفي 5 آب أعلنت لجنة الانتخابات المركزية في روسيا بأنها لن تراقب الانتخابات الرئاسية في بيلاروس، لأنها لم تتلق دعوة من الجانب البيلاروسي كالعادة من جهة، وبسبب الوباء الفيروسي من جهة ثانية، وبنفس اليوم أعلن نائب الممثل الرسمي للأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، عدم مشاركة الأمم المتحدة في مراقبة هذه الانتخابات دون تبريرٍ واضح.

يوم الانتخابات

مع الوصول إلى يوم الانتخابات في 9 آب، لم يتبق سوى متنافسين هما لوكاشينكو وتيخانوفسكايا، ولتصدر النتائج بفوز لوكاشينكو بنسبة 82% من الأصوات، إثر ذلك انفجرت موجة احتجاجات داعمة لتيخانوفسكايا بشكل أكبر داخل البلاد، ولتغادر الأخيرة إلى ليتوانيا وتمارس أنشطتها من هناك مُشككة بالعملية الانتخابية ونتائجها، ولتُسمي نفسها الفائزة بها، وفي اليوم التالي، صرح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بأن الانتخابات في بيلاروس «لم تكن حرة ولا نزيهة»، ويعلن جو بايدن مساندته للمشاركين في الاحتجاجات.

التصعيد

في 11 تموز بدأ يدور حديث في الأوساط الأوروبية عن تدابير يمكن اتخاذها ضد السلطات البيلاروسية، وليهدد المفوض الأعلى للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية، جوزيب بوريل، بفرض عقوبات على بيلاروس.
فيتحول المشهد بعد ذلك إلى حملة دولية موحدة مناهضة للسلطة البيلاروسية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وليتوانيا وبولندا وأوكرانيا والأمم المتحدة، بمقابل دعمهم لتيخانوفسكايا، وفي 13 تموز صرح مايك بومبيو بأن الولايات المتحدة تدرس فرض عقوبات على بيلاروس، وتعلن «جبهة الإنقاذ الوطنية» البيلاروسية المعارضة أنها بدأت إجراءات رفع دعوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد لوكاشينكو، ثم في اليوم التالي تبدأ نغمة «الرئيس غير الشرعي» بالصدور من رئيس ليتوانيا غيتاناس ناوسيدا.

أوهام لوكاشينكو تتحطم

كان يُخيل للسلطة البيلاروسية بقيادة لوكاشينكو أنه بإمكانها المناورة بين النموذجين الدوليين شرقاً وغرباً بالمعنى الجيوسياسي على طول الخط، دون احتسابها حليفاً خالصاً لإحداهما، بل «صديقاً للجميع»، ويمكن تكثيف هذه الرؤية بتصريح من لوكاشينكو بتاريخ 4 آب، حيث قال بأن البلاد «دولة مانحة للاستقرار (...) ومنزلٌ به نوافذ على الشرق والغرب»، فعلى سبيل المثال عمدت السلطة البيلاروسية- وفقاً لهذه الرؤية- على إقامة علاقات «ودية» مع واشنطن عبر شرائها النفط الخام الأمريكي عوضاً عن الروسي، وكان مقرراً أن تصل الشحنة الثانية منها بحجم 80 ألف طن إلى بيلاروس في أواخر هذا الشهر، وبنفس الوقت فإن بيلاروس أحد الأعضاء الخمسة لدول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي المستقل.
بالنسبة لموسكو لا مصلحة لها بالتدخل في الشؤون البيلاروسية طالما أن أراضيها لا تعد امتداداً غربياً ولا تؤثر على أمنها القومي أو مصالحها الإستراتيجية، وبقيت على هذا النحو رغم جميع الأحداث، مطالبةً الآخرين بعدم التدخل بشؤون مينسك الداخلية أيضاً، على العكس من واشنطن التي لم يعد يتوافق معها وجود هكذا نموذج «يدّعي الحياد» في خضم الصراع الدولي الجاري بينها وبين موسكو، وباعتبارها نقطة حدودية فإن توتيرها عشية الانتخابات الجارية، وبذريعتها، فرصةً لا يمكن تأجيلها للانتخابات القادمة خاصةً مع تراجعها دولياً، فما يمكن أن تحاول فعله اليوم، سيكون أكثر صعوبةً بعد 4 سنين.
بوصول هذا الصراع الجيوسياسي الدولي إلى الأراضي البيلاروسية سقطت أوهام لوكاشينكو تماماً، وأمام السلوك والتدخل الغربي الفاضح بالمقارنة مع السلوك الروسي، فقد فُرض عليه اتخاذ موقف حاسم تجاه أحد الأطراف، وعليه فقد جرى يوم الجمعة تسليم موسكو المواطنين الروس جميعهم، وأقام في يوم السبت اتصالاً مع الرئيس الروسي بوتين لبحث تطورات الوضع في البلاد، وليؤكد الطرفان عبر بيان صادر عن الكرملين بأن «جميع المشاكل القائمة في بيلاروس ستتم تسويتها قريباً».

معلومات إضافية

العدد رقم:
979
آخر تعديل على الإثنين, 17 آب/أغسطس 2020 13:01