إنجازات المقاومة وحديث المؤامرة
في أيلول 1969 نشرت صحف صهيونية، تصريحاً منسوباً لمسؤول في وزارة حرب الاحتلال آنذاك، يفهم منه: «أن عمليات المقاومة الفلسطينية، توقع ما بين مائة إلى مائة وخمسين إصابة في صفوف الجنود والمستوطنين الصهاينة، منذ بداية العام 69».
ومعروف أن العام المذكور شهد اشتداد ساعد المقاومة الفلسطينية، التي حققت إنجازاً كبيراً في معركة الكرامة (1968/3/21) وكانت المعركة رداً مبكراً على أهداف حرب حزيران، أقله على مستوى الوعي، فتدفق آلاف الشباب الفلسطيني للالتحاق بصفوفها.
وكانت تلقى دعماً كبيراً من مصر التي تخوض حرب الاستنزاف، ومن سورية، وتحظى بالتفاف شعبي عربي كبير، عبر عن نفسه من خلال الانخراط المباشر للشبان العرب في صفوف المقاومة، والتحاقهم بقواعدها ومعسكراتها في غور الأردن وسورية ولبنان.
لم يمض على التصريح الذي نشرته الصحف الصهيونية سوى عام واحد، حتى كانت المقاومة الفلسطينية تتعرض لضربات قاسية، في لبنان والأردن معاً. صحيح أن الصدام المحدود في لبنان آنذاك قاد إلى ما يعرف باتفاق القاهرة برعاية الرئيس جمال عبد الناصر. ولكن الصدام في الأردن أخرج المقاومة من الأردن، فأفقدها أطول جبهة مواجهة مع الاحتلال على حدود فلسطين، وضرب حالة الإجماع العربي من حولها، لسببين: كونها تصادمت مع جيش عربي، أولاً، وثانياً بسبب كثافة الحديث عن أخطاء ارتكبتها المقاومة، ودفعت النظام في الأردن لمواجهتها عسكرياً.
في كل من السببين بعض حقيقة، والكثير من المغالاة. وهذا الكثير سيبقى في ذمة التاريخ، لأن أي قول اليوم، كما كان بعد المعركة مباشرة، لن يفيد في تصحيح أشكال تفكير نمطي، ربطت بين سلوك بعض رجال المقاومة، والحرب التي شنت عليها لاقتلاعها من الأردن. وذهبت في السياق، إنجازات الكرامة، وعملية الحزام الأخضر، والضرب اليومي للاستيطان، وإسقاط مشاريع الاحتلال في الأغوار. وحل بدلاً عن ذلك العزف اليومي على أنغام التجاوزات، والثورة الفاشلة. كان المطلوب هو إسقاط النموذج والفكرة، وليس تقويض مجموعة قواعد عسكرية، أو طرد مجموعات من المقاتلين.
المهم الآن هو النتيجة. لم تعد المقاومة الفلسطينية إلى ما كانت عليه أبداً. وربما يمكن القول بجرأة: إن الفعالية العسكرية المؤثرة للمقاومة الفلسطينية على الاحتلال، قد تناقصت إلى حد مذهل بعد الخروج من الأردن.
بقية الحكاية كما تفاصيلها معروفة. يمكن التذكير بان الخيبة (الهزيمة) في الأردن، مهدت لنسق سياسي لم يعد مؤمناً سوى بالتفاوض للحفاظ على البقاء على نحو ما، وصولاً إلى أوسلو وأخواتها.
في العام 2000 نجحت المقاومة في لبنان، بدحر الاحتلال الصهيوني عن الجنوب اللبناني. هرب جنود الاحتلال، تحت وطأة ضربات رجال المقاومة. وكان الصهاينة هم من تحدث عن «فرار مع ذيل بين الساقين». وعن التحول التاريخي. كان الإنجاز الذي حققته المقاومة هو الأول من نوعه، في تاريخ الصراع العربي– الصهيوني. وكانت رسالته الجوهرية: نعم من الممكن هزيمة الاحتلال ودحره. من الممكن تحرير الأرض بالمقاومة المسلحة الدؤوبة والمنظمة، والبعيدة عن الاستعراضات الفجة قولاً وعملاً.
ولم يكن يراد لهذه الرسالة أن تمر، وأن تحتل مكانها الذي تستحقه في الوعي العربي. وكلنا يذكر اليوم الحديث البائس عن «الصفقة» التي قادت إلى خروج المحتلين من الجنوب. لم يخبرنا أحد عن ماهية تلك الصفقة، ولا حتى عن أطرافها. كان المطلوب فقط أن يتزعزع الإيمان بالمقاومة، وبقدرتها على الإنجاز. كما كان المطلوب تأبيد الهزيمة في الوعي، وخلق إحباط مستديم.
لكن «بركات» النصر في أيار، ظهرت سريعاً في فلسطين، وفي أيلول أيضاً، مع اندلاع انتفاضة الأقصى. وقد تكون لتلك الانتفاضة أسباب وروافع شتى، لكنها كانت في المقام الأول، ترجمة للحقيقة التي رسخها نصر أيار، والتي تقول: نعم ممكن. نعم نستطيع.
أحبطت انتفاضة الأقصى الجزء الأول والأساسي من المؤامرة على نصر أيار، قبل أن تقع هي بالذات تحت ضغط مؤامرات كثيرة. حتى وهي تنجز اندحاراً نسبياً للاحتلال عن قطاع غزة.
ثم جاء تموز 2006، ونحن في حضرة الذكرى اليوم، ليسجل إنجازاً غير مسبوق أيضاً في تاريخ الصراع. لقد شنت حرب كونية على المقاومة التي صمدت، وألحقت الهزيمة بالعدو. لتقوض باعتراف الصهاينة أنفسهم «جانباً كبيراً من نتائج حرب حزيران عام 1967»، فضلاً عن أهداف العدوان الجديد.
لقد كتب محللون صهاينة كبار عما وصفوه هم بالذات بالتحول الحاسم والكبير. وفي الجوهر من ذلك، انتهاء فكرة القدرة على الردع، وفكرة الحرب الخاطفة، وفكرة نقل المعركة إلى أرض العدو، وهي أفكار تشكل أساس معمارية نظرية الأمن الصهيونية التي ظلت فاعلة منذ قيام دولة الاحتلال.
عندما كان الصهاينة يعترفون بما لحق بجيشهم وكيانهم ومشروعهم الاستعماري من هزائم، كان البعض من العرب منشغلاً بالإجابة على سؤال: هل ما حدث نصر أم هزيمة؟ مرة أخرى كانت الحرب على الوعي والفكرة، وأضيف أيضاً الإنجاز. كانت الحرب (وما زالت) على المقاومة فكراً وسلوكاً وممارسة. ولعله مما كان (ومازال أيضاً) يلفت الانتباه، أن كثيرين ممن دأبوا على الاستشهاد بكتابات الصهاينة وأقوالهم، قبل تموز وآب 2006، ليمرروا فكرة ما ضد المقاومة والعروبة، صاروا يتعففون عن الاستشهاد بما يقوله الصهاينة، وأكثر من ذلك يتهمونك إن قلت لهم: ما قولكم في اعتراف الصهاينة أنفسهم بأنهم هزموا؟
كان هناك من لا يريد أن يصدق أن المقاومة انتصرت. ومرة أخرى كان هناك طابور طويل من القوالين والمهزومين، ووو.. يريد تأبيد الهزيمة، ويرفض الحديث عن النصر. يرفض الحديث عن أننا نستطيع هزيمة هذا العدو. لقد قامت المقاومة عبر إنجازها التاريخي، بعملية فضح كاملة وحاسمة ونهائية لأولئك الذين قرروا الاستكانة لوجود الاحتلال على أرضنا، ولتقبله، ولإقناعنا بأن لا راد لهذا «القدر». الهزيمة ليست قدراً. والنصر ممكن، ودحر الاحتلال ممكن. هذا ما قالته المقاومة، وهذا هو السبب في أن النصر كما المقاومة، تعرضا وما زالا يتعرضان للهجوم حتى اليوم.
أذكر هنا حادثة ذات دلالة. بعد أشهر قليلة من النصر العظيم في تموز 2006 ، كنت في الجزائر، والتقيت مسؤولاً جزائرياً كبيراً، هو السيد عبد العزيز بلخادم رئيس الحكومة الجزائرية في حينه. كنا نريد تسجيل مقابلة لمصلحة قناة المنار. وأثناء قيام الفريق الفني بالتحضير لبدء التصوير، خطر لي أن أسأله (وكان هناك حديث عن قمة عربية قريبة): هل تعتقد دولة الرئيس أن على العرب القيام بتغيير إستراتيجي بعد نصر المقاومة، بأن يكفوا عن حديث المبادرة العربية، تأسيساً على واقع مستجد؟ أجابني بالقول: «نعم يجب أن يحدث هذا. ولكننا ممنوعون من استثمار النصر». من يمنعكم؟ سألت مجدداً متشجعاً بتبسط الرجل. وكانت الإجابة: مجرد ابتسامة فيها الكثير من المعاني. وتقول الكثير.
لو عاد المرء بالذاكرة إلى الأيام التي تلت النصر العظيم في آب من عام 2006، حتى اللحظة الراهنة التي نعيشها لرأى مساراً واضحاً، للتآمر على النصر والمقاومة. أفترض أنه من نقطة البدء تآمر على الفكرة أولاً. وهو يستخدم وسائط عديدة، وأشكالاً متنوعة، منها الحديث المذهبي البغيض. وليس المقصود هو المذاهب هنا بل المقاومة، ونصر المقاومة. الحديث المذكور أداة بشعة وحسب.
أذكر هنا واقعة ربما تؤكد ما نذهب إليه. صبيحة العدوان على غزة أواخر عام 2008، بدأ الصهاينة على ما نذكر جميعاً حربهم البشعة بقصف طابور من رجال الشرطة الذين يستعدون لحفل تخرج من كلية الشرطة في القطاع. وأدى القصف إلى سقوط عشرات الشهداء دفعة واحدة. بعد دقائق ظهر أحد مستشاري عباس، المدعو نمر حماد على شاشة إحدى الفضائيات الغربية ليقول: «هذه نتيجة عنتريات حماس». لم يتوقف البائس أمام مشهد الدم. لم يتوقف أمام الوحشية الصهيونية. وفي لحظة شديدة الوطأة على كل ذي حس إنساني، لم يفوت الفرصة لمهاجمة فكرة المقاومة التي يعتبرها «عنتريات».
على كل حال، وقعنا طويلاً تحت وطأة التخويف من استخدام كلمة المؤامرة، والتخويف من التحليل الذي يستشف منه القول بالمؤامرة. كان لافتاً للانتباه أن التخويف يسلط علينا كلما أتينا على ذكر أمريكا أو «إسرائيل»، فإن ذكرتهما، أو أشرت إلى دورهما، فأنت تخضع «لنظرية المؤامرة».
وبلغ الخوف حداً جعل الكلام حذراً، وبلا معنى، وفات المخوفين والخائفين، أن السياسة بالمجمل هي مؤامرة أو نوع من المؤامرة. وهذا بحث يطول. ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه: إذا كان كل ما يجري ليس مؤامرة فماذا يكون؟ من تقويض المقاومة التي اشتد ساعدها عام 1969، إلى اتهام الانتفاضة الأولى بالفوضى، والتقليل من قيمة نصر 2000، وصولاً إلى الحرب على المقاومة فكرة وسلاحاً ووجوداً اليوم. بماذا يمكن أن نصف كل هذا؟
المهم أن المقاومة تعلمت الكثير. وكما طور العدو أدواته، فقد طورت أدواتها وأساليبها، وما أصاب المقاومة بعد عام 69، لن يصيبها اليوم. «لقد ولى زمن الهزائم».